من 1967 إلى اليوم: إعلام النكسة.."ورقة توت" الأنظمة القمعية
الاثنين - 5 يونيو 2023
- حوّل الهزيمة المذلة في 5 يونيو 1967 إلى "نكسة" ويروج الفشل على أنه إنجازات!
- لم يقولوا "هزيمة" كي لا تُنسب للعسكر ولكن "نكسة" لربطها بالشعب كأنه المسئول!
- الصحافة المصرية ساهمت في تضليل المصريين والعرب والإعلام الصهيوني كشف الحقائق
- السيد الغضبان: كنا نقرأ بيانات الانتصار ودخول تل أبيب ونحن نعلم أننا مهزومون!
- السيسي قال: "يا بخت عبد الناصر بإعلامه" ثم سار على خطاه في تكميم الأفواه وبث الأكاذيب
إنسان للدرسات الإعلامية- خاص:
رغم أن الإعلام المصري، الذي كانت تسيطر عليه الآلة العسكرية والقمعية لنظام الرئيس جمال عبد الناصر، يطلق عليه اسم "إعلام النكسة"، إلا أن هذا المصطلح بات عاما ينضوي تحته إعلام السلطة العسكرية الحالية في مصر منذ انقلاب 3 يوليو 2013، وإعلام أي نظام قمعي آخر.
صحيح أن الإعلام المصري الذي كان مؤمما ويسيطر عليه زبانية عبد الناصر لعب دورا في هزيمة 5 يونيو 1967، وخدع الجماهير المصرية والعربية، وسوّغ الهزيمة تحت مسمى "نكسة" ما دفع المصريين للجوء للإعلام الأجنبي لمعرفة حقيقة الهزيمة المذلة.
إلا أن "إعلام النكسة" نفسه ما زال يحكم مصر ويروج لأكاذيب السلطة ويصور كل فشلها على انه "انجازات" وكل كوارثها على أنها "تطوير وتنمية" و"حياة كريمة" وبات يروج للأكاذيب والإلهاء لتخدير الشعب.
لذا لا يختلف إعلام مذيع السلطة الشهير "أحمد سعيد"، صاحب الصوت الأشهر في العالم العربي في الستينات،بعد صوت ناصر، وهو يعلن الانتصارات الوهمية ودخول الجيش للمصري تل أبيب وإسقاط مئات الطائرات، بينما كانت إسرائيل على أبواب القاهرة، عن إعلام أحمد موسي وعمرو أديب ومصطفي بكري وغيرهم في التدليس ونشر الأباطيل والترويج لحكم "طبيب الفلاسفة" الفاشل السيسي.
لماذا أسموها "نكسة"؟
لأن ما جري في عام 1967 هو فشل سياسي وعسكري واضح لنظام عبد الناصر، وهزيمة عسكرية كاملة وخطيرة أدت ليس فقط لاحتلال سيناء ولكن أيضا القدس والجولان وغيرها بسبب الفشل المصري أساسا.
وقد سعت السلطة لتصويره على أنه "نكسة" بهدف تحويل اتهامها بالمسئولية إلى الشعب نفسه كأنه مسئول عن النكسة!
بعد فشل اعلام عسكر مصر وهزيمة 67 سعى إعلام عبد الناصر لربط الهزيمة أو النكسة بالشعب وأصبح يطلق على الشباب في ذلك الحين "جيل النكسة" وكأن الإنسان العربي هو من هُزم لا القادة الديكتاتوريين.
عندما لاح شبح الحرب في الأفق تحول الإعلام المصري، والعربي عامة إلى دعاية وراح يُبالغ في تضخيم القدرات المصرية والعربية، ويقلل من قدرات العدو.
وساهمت عناوين الصحف والتصريحات «العنترية» والأغاني الحماسية في الشحن المعنوي وتأجيج المشاعر ورفع سقف التوقعات والأحلام، فقد صورت وسائل الإعلام السلطة في مصر الحرب وكأنها "نزهة" ستنتهي بإزالة إسرائيل.
ولا يتحمل مسئولية "النكسة" الصحفيين والإعلاميين وحدهم فقد كانت بياناتهم والأخبار التي ينشرونها مصدر المتحدث العسكري والشئون المعنوية والمخابرات الحربية الفاسدة.
دور خطير للإذاعة
قبل هزيمة 67 اشتهر مذيع النكسة "أحمد سعيد" بعبارات مثل "اسقطنا 100 أو 250 طائرة" .. "قواتنا تقترب من تل أبيب" و"حرب شاملة، هدفنا تدمير الأسطورة الإسرائيلية التي تقول إن إسرائيل باقية هنا".
ولعبت إذاعة «صوت العرب» على وتر استثارة عواطف الجماهير بأسلوبها الخطابي الدرامي، والنبرة الانفعالية والمبالغة عبر صوت المذيع "أحمد سعيد" لكن عبر نقل أكاذيب لا علاقة لها بمسار الحرب الحقيقي.
في الساعات الأولى للحرب أذاعت «صوت العرب» أن مصر أسقطت 250 طائرة إسرائيلية دفعة واحدة!!.
وتحدثت عن هزائم مُني بها الجيش الإسرائيلي، فأخذ في الانسحاب أمام القوات المصرية، وبعد أن بشرت بنهاية لإسرائيل، أعلنت أن أم كلثوم وافقت على أن تقيم حفلتها المقبلة في تل أبيب بعد أسبوع!
كان أسلوب الدعاية الذي اتبعته برامج الإعلام الحربي من خلال الإذاعة المصرية بصفة عامة، وإذاعة صوت العرب بصفة خاصة، خلال فترة الحرب، لا يتماشى إطلاقاً مع حقائق الأحداث ونتائج الحرب.
وساهم في الفشل غياب التنسيق الإعلامي بين الإعلام الحربي والأجهزة الإعلامية المختلفة غائباً، فلم يكن هناك آي مسئول مفوض لإعطاء الصحافة أية معلومات، بل أن الصحف المصرية كانت تستقى معلوماتها من الإذاعة المصرية بصفة خاصة دون الإذاعات الأجنبية، اعتقادا منها أن الأخيرة مغرضة فيما تقول!!.
ولم يُحاول الإعلام أن ينشر حقيقة ما يحدث في جبهة القتال، ولم يكن مسموحاً بنقد أي عمل حربي.
لذلك فقد الإعلام الإذاعي مصداقيته، عندما أذيعت النتائج الحقيقية واتضح للجميع شكل وطبيعة النكسة التي تعرضت لها مصر والعالم العربي، وكيف استطاعت القوات الإسرائيلية أن تحتل سيناء والضفة الغربية والجولان.
الأمر نفسه حدث مع التلفزيون المصري الذي اعتمد على ما يرد إليه من بيانات حربية من أجهزة الاستخبارات، ولم يستطع التليفزيون أن ينقل حقائق القتال من من خلال المراسلين.
كانت المشكلة هي أن العرب أيضا، وليس المصريين فقط، صدقوا أحمد سعيد وأمثاله وأقنعوا أنفسهم بأن نصرا سهلا يلوح في الأفق.
لم تقتصر الأكاذيب على البيانات التي كان يذيعها سعيد، الذي أجبر على الاستقالة واعتبر نفسه ضحية بعد الهزيمة، بل استمرت عبر القنوات العبرية الركيكة التي كان تبثها الإذاعة المصرية من القاهرة والموجهة نحو إسرائيل، لتخويف المدنيين الإسرائيليين أنهم إذا واجهوا المصريين في الحرب فلا مفر من الهزيمة، لكن قادة اليهود كانوا يعلمون أن إعلام النكسة يبث الأكاذيب.
كان الجنود الفارّون من الجبهات هم أول من نقل الأخبار السيئة للشعوب في الدول العربية، لأن التضخيم الإعلامي للقوة العربية قبل الحرب جعل من الصعب الاعتراف بالهزيمة وبحجم الخسائر ودرجة الإذلال التي تعرضت لها الجيوش العربية.
فضيحة الصحف المصرية
كانت الصحف المصرية أيضا في وادٍ آخر خلال الحرب، واشتهرت بمانشياتها الصارخة الكاذبة التي لم يصدقها أحد منذ البداية، إذ قالت الأهرام الرسمية إن "قواتنا المدرعة تتوغل داخل خطوط العدو"، وصورت للمصريين الأمر كأن "مصر تتوغل داخل إسرائيل"!!.
زعمت: "بدأ العدو الإسرائيلي هجومه على الجبهة المصرية جوًا وبرًا ابتداءً من الساعة 9 صباح 5 يونيو 1967، و"تم إسقاط أكثر من 86 طائرة للعدو خلال هجماته الأولى وأسر وقتل عدد من طياريه".
وتقول صحيفة "المصري اليوم"، 5 يونيو 2010، إن القراءة في "صحافة النكسة" الصادرة أيام الحرب تكشف عن الخداع الذي مارسه الإعلام المصري للرأي العام، إذ راحت أجهزة الإعلام تتحدث عن انتصار للجيش المصري، وإبادة طيران العدو.
ففي عددها الصادر بتاريخ 6/6/1967 وفى الصفحة الثالثة كتبت صحيفة "الأخبار" تحت عنوان «أخبار الانتصار على الجبهة المصرية في سيناء وغزة وشرم الشيخ.. البلاغات العسكرية عن المعركة ساعة بساعة».
ونشرت نص البلاغات العسكرية التي أذاعها المتحدث العسكري المصري من البيان رقم 1 إلى البيان رقم 17 وتشير فيها إلى إسقاط الطائرات الإسرائيلية وأسر الطيارين الإسرائيليين. وكانت كلها أكاذيب بطبيعة الحال.
جريدة «الجمهورية» مارست نفس التضليل حيث كانت مانشيتاتها فى 6/6/1967 كالتالي: المعركة الفاصلة تدور الآن داخل إسرائيل .. قواتنا تسلمت زمام المبادأة وتوغلت داخل إسرائيل بعد أن دمرت دباباته، وأحبطت محاولاته للهبوط بالهليوكوبتر"!!
زعمت: "سلاح الجو الإسرائيلى يلقى أكبر هزيمة فوق الأرض العربية .. 86 طائرة أسقطها سلاحنا الجوي و50 أسقطتها سوريا و23 أسقطتها الأردن والعراق 7 وواحدة لبنان".
أضافت: "القوات السورية والأردنية والعراقية تضرب مواقع العدو، وتتوغل داخل أراضيه على طول الجبهة، تدمير مطارات العدو وضرب مصفاة البترول فى حيفا، وإشعال النيران فى 5 مستعمرات إسرائيلية.. القوات الأردنية تستولى على جبل المكبر وتطارد قوات العدو في القدس المحتلة وتحتل مستعمرة زايد".
جريدة «الأهرام» قالت فى نفس اليوم في عناوينها: معارك ضارية على كل الجبهات مع العدو .. بدأ العدو الإسرائيلي هجومه على الجبهة المصرية جواً وبراً ابتداء من الساعة 9 صباح أمس.. إسقاط أكثر من 115 طائرة للعدو خلال هجماته الأولى. وأسر وقتل عدد من طياريه، صد 3 هجمات إسرائيلية بالمدرعات فى مناطق الكونتيلا وأبوعجيلة وخان يونس، قواتنا توجه ضربات متلاحقة للعدو وتلحق به خسائر فادحة فى البر والجو".
وحتي بعد تكشف الهزيمة الثقيلة عادت الصحف في اليوم التالي لتمارس نفس التضليل وتستمر الأكاذيب، فكتبت «الأخبار» يوم 7 يونيو 1967: قواتنا تطارد في عنف مقاتلات أمريكا وبريطانيا، كبدنا العدو خسائر فادحة في الطائرات منها 9 فوق أبوعجيلة وخان يونس وأسرنا 8 طيارين.. البوارج العربية ضربت قلب تل أبيب.. القوات العراقية والسورية تدك المستعمرات الصهيونية".
وخلال كارثة نكسة 5يونيو 1967 قالت صحيفة المساء: أسقطنا 43 طائرة، وقالت الأخبار: أسقطنا 90 طائرة، أما الأهرام فزعمت: أسقطنا 300طائرة!! (شاهد تويتر)
ومع بدء تكشف الحقائق للشعب، بدأت الصحف المصرية تمهد للهزيمة في اليوم الثالث للحرب 7 يونيو 1967، بالتحوّل من نقل الأخبار الكاذبة حول الناصر الساحق على إسرائيل، إلى اتهام الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا بالعمل ضد مصر في المعركة، دون ذكر خسائر الجيش المصري.
ففي صدر صفحتها الأولى، قالت صحيفة "الأهرام" الرسمية 7 يونيو: "الطيران الأميركي والبريطاني يعمل ضدّنا في المعركة"، وتحدثت عن "أدلة قاطعة على أن الطيران الأميركي والبريطاني يساعد العدو مساعدة متواصلة في معركته ضد الجبهات العربية.
ونقلت عن الملك حسين أنه "يرى بنفسه على شبكات الرادار الأردنية موجات الطائرات الأميركية تخرج من حاملات الطائرات في البحر لمساعدة العدو".
وأبرزت الأهرام أنه "بعد أن ثبتت أدلة التواطؤ الأميركي قررت القاهرة بعد مشاوراتٍ مع الدول العربية قطع العلاقات السياسية مع الولايات المتحدة الأميركية"، بالشراكة مع سورية والجزائر واليمن والعراق والسودان.
ورغم العناوين البارزة حول التواطؤ الأميركي البريطاني، ظلت مسحة من الأخبار الكاذبة تنشرها الصحف المصرية، وزعمت "الأهرام" أن الجيش المصري يقف ببسالة أمام هجوم أميركي بريطاني إسرائيلي، وأن القوات السورية تزحف داخل إسرائيل ومستعمراتها
وفي اليوم الثالث للحرب، أبرزت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، نبأ فقدان مصر لمائتين من طياريها وانهيار جيشها البري ودفاعاته، واحتلال إسرائيل لمدينة رام الله في الضفة الغربية.
واحتفت صحيفة "هآرتس" بما سمته "تطويق البلدة القديمة" في مدينة القدس، وأبرزت أن الطيران العربي والسوري والأردن أنتهي دوره بعد الضربات الإسرائيلية المبكرة.
تدليس كبار الكتاب
وقد ساهم كُتاب كبار في التضليل حين كتب "فكرى أباظة" في عدد مجلة «المصور»، 9/6/1967، تحت عنوان «مرحباً مرحباً بالمعركة» يقول: «كان القائد الأعلى جمال عبد الناصر يتوقع كل غدر، وقد وقع العدو فى الفخ وسقطت طائراته الواحدة تلو الأخرى"!!
قال: "أصليت كتائب العدو الهزيلة على الحدود بنار حامية، كتلك النار التي انصبت على رؤوس طياريه وطائراته في الجو، وولاء منقطع النظير من شعوب الأمة العربية للقائد عبد الناصر ودعاء حاراً من الأعماق لكي يجزيه الله خيراً"!!
أما مقال محمد حسنين هيكل عراب السلطة، "بصراحة" فى «أهرام» الجمعة 16/6/67 فقد تناول دهاليز الموقف السياسي ودعم أمريكا لإسرائيل وحاول تبرير أسباب الهزيمة بأن مصر لم تكن تحارب إسرائيل بل أمريكا وأوروبا!
ويقول الكاتب الفلسطيني رافع البرغوثي عن "حال الإعلام المصري أيام النكسة" في صحيفة "القبس" الكويتية، 4 يونيو 2017، أنه خلال الحرب، تدفقت من الإذاعات العربية البيانات العسكرية الكاذبة، وأخبار الانتصارات الوهمية، وعاش الشعب العربي كله، في الساعات الأولى من الحرب، موجة عارمة من الوهم.
قال: إن الصحافة المصرية ساهمت في تضليل المصريين والعرب بالحديث عن القدرة على إلحاق الهزيمة بإسرائيل، وتم تجاوز ذلك إلى حد الغرور والتقليل من شأن العدو.
الدكتور "ليلي عبد الحميد" قالت في كتابها «تطور الصحافة المصرية»: إن «الصحافة عمدت إلى تهيئة الرأي العام للمعركة».
وأشارت إلى أن تأثير ظروف الحرب في الصحافة، حيث أعيد فرض الرقابة على الصحف، بعد أن كانت قد ألغيت في مارس سنة 1964، واضطرت الصحف إلى خفض عدد صفحاتها، توفيرا للنقد الأجنبي الذي تحتاج إليه البلاد في ظروف الحرب، واستمر ذلك حتى يوم 22 يونيو 1967.
إعلام العدو يكشف الحقيقة
يوم 6 يونيو 1967، أي اليوم الثاني للحرب وبعدما وضحت الصورة والهزيمة، نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية على صفحتها الثانية رسم كاريكاتوري صورت فيه إسرائيل على شكل "دبابة واحدة" تسير باتجاه مصر وتطلق مدفعيتها هناك.
تحدثت عن التقدم الذي يحققه الجيش الإسرائيلي في سيناء، مثلما احتفت باقي الصحف الإسرائيلية، وأبرزت في صدر صفحتها الأولى عنوان "الجيش الإسرائيلي يدكّ المهاجم العربي".
هآرتس ومع أنها صحيفة يسارية إلا أنها تجندت مع كل وسائل الإعلام الصهيونية، حتى تلك التي تدعي أنها يسارية لنقل الرواية الرسمية لجيش الاحتلال، وتصوير العدوان على أنه "حرب وقائية".
حاول الإعلام الصهيوني، رغم ذكره الحقائق عن إنزاله أكبر هزيمة بعد الناصر وحافظ الأسد، تصوير الأمر كأن إسرائيل هي التي تحت عدوان عربي، بينما، في الواقع، إسرائيل هي من شنت العدوان على مصر وسوريا ولبنان والأردن في وقت واحد واحتلت مساحة ضخمة.
وتحدثت صحيفة يديعوت أحرونوت حينئذ عن احتلال اللطرون (التي تم كشف جريمة حرق وحدة كوماندوز مصرية فيها خلال الحرب ودفنهم أسفل جراج إسرائيلي) وأيضا احتلال جنين وشمالي سيناء على صدر صفحتها الأولى. بينما أبرزت في صفحتها الثانية زعمها أن الأمم المتحدة "غير قادرة على تحديد من بدأ العدوان".
وشهد شاهد من أهلها!
روي الإذاعي المصري "السيد الغضبان" لصحيفة "الشرق الأوسط" 2 سبتمبر 2019، كواليس الإعلام والسلطة خلال نكسة حرب يونيو 1967 وكيف تم خداع المصريين كي لا يظهر لهم حقيقة الكارثة التي أوصلهم عبد الناصر لها. (صورة للهزيمة)
وكان "الغضبان" هو مسؤول التنظيم الطليعي للإذاعة المصرية، وقت نكسة يونيو 1967، مما يجعله شاهداً رئيسياً على كواليس الإعلام والسلطة في هذه الفترة الحرجة، وعمليات التضليل في هذا الوقت بالإذاعة.
قال إنه كان بوصفه مسؤول التنظيم الطليعي داخل الإذاعة المصرية كان على تواصل دائم مع زملائه بالتنظيم في قطاع الإعلام وقت زلزال النكسة، وإنه لم يكن يتصوّر وهو في طريق سيره المعتاد لمبنى «ماسبيرو» يوم الخامس من يونيو أنه على مشارف ورطة تاريخية، ورطة بحجم الاتهام بتضليل الشعب في نكسة 1967.
فبعد استدعائه مبكراً في الصباح من قبل وزير الإعلام المصري آنذاك محمد فايق، قطع الغضبان الطريق من بيته إلى «ماسبيرو» سيراً على الأقدام، مُتشبثاً بالراديو «الترانزستور» الذي كان لا يفارقه، كما عموم المصريين آنذاك، فجاءته أصداء البيانات العسكرية عالية، فانتشى مُحدثاً نفسه بنبرة يقين بأنها لو كانت الحرب فستكون مصر هي صاحبة الانتصار الكاسح، فجميع المؤشرات الأولية تُفيد بجاهزية الجيش، مؤشرات تؤكد أن مصر ستُلقن إسرائيل درساً قاسياً.
يروي الغضبان أنه تم تقسيم عمل المذيعين إلى خمس مجموعات، يقودها كل من الإذاعيين جلال معوض، وأحمد سعيد، وطاهر أبو زيد، وفاروق خورشيد، وهو.
قال: «كنا معزولين عن العالم، نتناوب قراءة البيانات العسكرية التي تصل إلينا والنشرات ونداءات الانتصار، كنا نتنافس من منا سيقرأ البيان الجديد»!!.
يتذكر الغضبان: «كنا نقرأ بيانات الانتصار ونحن نعلم أننا مهزومون، كانت معاناة نفسية ضخمة، كنا نتمزق من الداخل»، مضيفاً: «البلد كانت في حالة حرب، لم يكن هناك مجال للتمرد، كنا نحن المذيعين كجنود مهزومين"!!
كشف أن «تلك الحالة الحماسية ظلت هي المسيطرة، إلى أن غيّرت وكالات الأنباء العالمية دفة هذا الحماس، حتى أتاه رئيس قسم الأخبار آنذاك إسحق حنا، في يده نشرة الأخبار المأخوذة من الوكالات العالمية مصحوبة بانفجاره في البكاء.
قال إن الوكالات الأجنبية كانت تبث أخبارا تقول إن "إسرائيل تقترب من شط قناة السويس"، وهكذا بدأت أخبار «النكسة» تتسرب.
أكد أنه حدث انقطاع في التواصل مع القيادة السياسية، حتى وزير الإعلام ورئيس الإذاعة كانا تحت الصدمة، مما جعل الاجتهاد الشخصي هو سيد الموقف، فاقترح الغضبان أن يتم تخفيف نبرة الانتصار الزاعقة، فبدلاً من استخدام مصطلحات مثل «سننتصر» تُخفف لتصبح «ثابروا».
وهو قرار التزم به جميع المذيعين إلا الإذاعي الشهير أحمد سعيد الذي لم يُغير من نبرة حماسه، مُستنداً إلى موقف شخصي بأنه يدعم بصيص الأمل في تغير الموقف لصالح مصر.
قال الغضبان لـ «الشرق الأوسط»، إن «الصحف في هذا الوقت كانت مُضللة أيضاً، لكن أكبر أثر سلبي كان من الإذاعة، فالشعب في هذا الوقت كان شديد الارتباط بها، والراديو (الترانزستور) كان يصحب الكل، في المقاهي، في البيوت، في الشارع".
قال إنه اتبع هذا وقف إذاعة أي أغانٍ تُمجد في عبد الناصر، وإذاعة الأغاني الوطنية.
ويقول "السيد الغضبان" أنه كان مُعتقلاً في السجن الحربي ضمن من اعتقلوا بعد محاولة اغتيال عبد الناصر في حادث المنشية 1954، حيث كان في السابق مسؤول جماعة «الإخوان المسلمين» في جامعة الإسكندرية، مما جعله ناقماً على عبد الناصر وثورته بسبب سجنه.
لكنه تغير عقب قرار ناصر تأميم قناة السويس 1956 وترك جماعة الإخوان، وتراجع الغضبان عن عدائه لعبد الناصر بعد قراراه بـتأميم القناة، باعتباره قرارا ضد الغرب، ومنذ ذلك الحين عاد لعمله وسُمح له بالمشاركة في تغطية الإذاعة الخارجية لموكب عبد الناصر إبان قرار التأميم.
تمثيلية "التنحي"
استمرت أكاذيب إعلام نظام عبد الناصر حول هزيمة إسرائيل لا الجيش المصري، حتى اليوم الذي تنحى فيه عبد الناصر في التمثيلية الشهيرة (9 يونيو 1967).
ظلت الصحف إلى اليوم الذي أعلن فيه عبد الناصر قراره بـ"التنحي" تأخذ معلوماتها من الإذاعة، تنشر سيلا من البيانات عن إسقاط أعداد كبيرة من الطائرات الإسرائيلية، حتى أعلن عبد الناصر نفسه في بيانه «اننا أصبنا بنكسة» وأنه يتحمل المسؤولية كاملة، وأعلن تنحيه عن كل المناصب التي يشغلها.
خرج جمال عبد الناصر بخطاب التنحي، ليعلن ليس الاستقالة، ولكن "رغبته في الابتعاد عن المناصب الرسمية والعودة لصفوف الجماهير"، ما يعني أنها تمثيلية محبوكة، حيث خرجت المظاهرات الشعبية (المعدة سلفا من الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي الناصري) تطالبه بالبقاء والاستمرار من أجل إزالة آثار العدوان!!.
انتهت التمثيلية بعودة عبد الناصر مع منحه "تفويضا كاملا" ليتخذ ما يراه مناسبا لتجاوز النكسة، وامتلأت الصحف بالمقالات المؤيدة لاستمرار ناصر في تولي مسؤولياته، وهو نفس سيناريو إعلام الانقلاب في عهد السيسي بـ "التفويض" لقتل المعارضين والتمثيل بجثث الشهداء في مذابح رابعة والنهضة ورمسيس وغيرها.
وكتب "أنيس منصور" في «الأخبار» في عموده مواقف بتاريخ 12 يونيو 67 يقول: "أعلن جمال عبد الناصر أنه المسؤول وحده عن النكسة وأنه لذلك يجب أن يتنحى وهذه هي قمة البطولة وقمة المأساة أيضاً! ".
قال: "كيف للراعي أن يتخلى عن رعيته المؤمنة به؟ كيف للمؤرخ أن يلقى قلمه وهو يصحح تاريخ مصر والأمة العربية"!.
زعم: "لقد عشنا بك ومعك يا جمال أياماً سعيدة.. إن أعباء النكسة تستطيع وحدك أن تحملها وأن تزنها.. لقد أصدرنا قرارنا لا وشكراً لله أنك قلت لنا نعم".
بحسب موقع "المقاتل العربي"، توفرت المعلومات عن إعلان التعبئة الجزئية في الجيش الإسرائيلي، وتم إبلاغ مصر من أكثر من مصدر من بينها الاتحاد السوفييتي عن وجود حشود إسرائيلية على الحدود السورية.
لكن ابتلعت مصر الطعم وسهل من ابتلاعه تلك الرغبة الكامنة لدى القيادة السياسية بإزالة ما نجم عن العدوان الثلاثي عام 1956م من مزايا تتمتع بها إسرائيل، وهو منحها حرية المرور في مضيق تيران وخليج العقبة.
تدليس الإعلام الحربي
أخطر من الإعلام والصحف العامة، كان الإعلام الحربي الذي تنقل عنه الصحف والإذاعات والتلفزيون وحده، حيث بث الإعلام الحربي بيانات وبلاغات حربية كاذبة، والإعلان عن معارك وهمية واختلاق انتصارات خيالية.
بينما كان "موشى ديان" وزير الدفاع الإسرائيلي يعلن على العالم من خلال المراسلين الأجانب أن إسرائيل دولة لا تقوى على الحرب ولا تريدها ثم يعلن وصول قواته لقناة السويس يوم 5 يونية 1967 كانت بيانات الإعلام الحربي المصري، تزعم أن القوات المسلحة أسقطت 250 طائرة إسرائيلية.
ساهم في نفس التدليس، والتصريحات غير المدروسة لبعض المسئولين العسكريين المصريين، والتي يعلنون فيها بصفة دورية أن مصر هي أقوى دولة في الشرق الأوسط وأن لديها أقوى قوى بحرية وجوية وبرية في المنطقة، بل وذهب البعض إلى القول بأن القوات المصرية ستلقى بإسرائيل في البحر.
وهو نفس ما يفعل جنرالات عبد الفتاح السيسي حاليا بأن قوة مصر لا تقهر وأنها قادرة على حماية مصر والانتشار في ستة ساعات وإغاثة العرب، بينما جيش السيسي غير قادر علي وقف استباحة إثيوبيا مياه النيل وتعطيش المصريين في مواسم الجفاف حين تنقص المياه في النيل وتحتجز أثيوبيا ما تريد في سد النهضة.
ودفع هذا المصريين للصدمة وعدم تصديق بيانات الجيش حتى انتصار 1973، بسبب اعتماد الإعلام الحربي في حرب 67 على بث معلومات كاذبة عن تطورات المعارك وعدم الاستعانة بالمصادر المختلفة، وإذاعة بيانات حربية تحتوي على الأكاذيب وتضليل الشعب.
دور الإعلام في النكسة
لم يقتصر دون إعلام السلطة على التدليس وهو ينقل أخبار النكسة، ويصفها بانها انتصارات، بل إنه لعب دوراً يعتبر أحد الأسباب في تلك النكسة، وفق موقع "المقاتل العربي".
أيضا لعب الإعلام دورا في النكسة لأنه ساهم في التهويل في قدرات القوات المصرية والتهوين من قدرات العدو.
فقد كانت السياسة الإعلامية المصرية قائمة على التخبط وعدم التخطيط، وتزايد دور الدولة (تدخلها كما يحدث الآن في عهد السيسي) في النشاط الإعلامي والثقافي، وسيطرة طابع العلاقات الشخصية على العمل الإعلامي والثقافي، وسيطرة أسلوب الكم على الكيف، مع التأكيد نظرياً على حرية الصحافة دون أن تكون هناك حرية فعليا.
فقد شهدت تلك الفترة تغيرات كثيرة وسريعة، وشملت أحياناً الهياكل الإدارية والتحريرية في بعض المؤسسات الصحفية، وأدى هذا إلى الارتباك والخلافات بين الصحفيين والسياسيين الذين تولوا مناصب الإشراف على هذه المؤسسات.
وتزايد دور الدولة في النشاط الإعلامي بعد صدور قانون تنظيم الصحافة، وأصبح الاتحاد الاشتراكي، وهو التنظيم السياسي القائم وقته، هو المسؤول عن الصحافة، (حاليا مخابرات عباس كامل هي المسئولة).
وأصبح رئيس الاتحاد الاشتراكي هو الذين يعين رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير ويعزلهم من مناصبهم، مما أدى إلى اندماج الصحافة عمليا في سلطة الدولة، وانتهت حريتها واستقلاليها واختفي دورها كرقيب وسلطة رابعة على السلطة.
وبرر ثروت عكاشة -وزير الثقافة حينئذ -ذلك: "بأن الدولة تصدت للقيام بتأدية الخدمات الثقافية التي ينوء بها الأفراد، كمتابعة الموضوعات التي يحجم القطاع الخاص عن الخوض فيها لأنها تكبد الكثير من النفقات".
وهكذا فرغم نص الميثاق الوطني الصادر عام 1962م، على حرية الكلمة والفكر، وتوافر الضمانات لحرية الصحافة، لم تمارس الصحافة المصرية حريتها بصورة كاملة، وكانت هناك قيود على ما ينشر.
وفرضت الرقابة التي عملت على حذف أو إلغاء بعض الآراء والأخبار التي تتعارض مع السلطة وأنصارها حيث لم يكن مسموحاً التعرض للنظام أو الحكومة.
ولا يبدو أن إعلام السلطة العربي تعلم شيئا من أخطاء الماضي، بل واستمر في تعميق هذه الأخطاء عقب تأميم وشراء وسائل الاعلام وحجب أي حرية صحافة وتكميم الصحفيين واعتقالهم، ومنع حتى التعبير عبر وسائل التواصل لأن الهدف هو كرسي الحكم لا كرامة مصر أو البلدان العربية وتقدمها، وإعلام السيسي أكبر دليل علي ذلك.
إعلام نكسة السيسي
"يا بخت عبد الناصر بإعلامه" .. كانت هذه جملة نطق بها حاكم مصر العسكري، عبد الفتاح السيسي من باب التندر والفكاهة، عقب الانقلاب العسكري بعام واحد، لكنها أفصحت عن مكنون نفسه وعقله تجاه المنظومة الإعلامية التي يحلم بأن تكون في عهده.
كان مستغربا أن يحلم السيسي بـ "إعلام الهزيمة" الذي طبقه قائد النكسة جمال عبد الناصر ويتمني أن يتبناه نكموذج ويتباهى به مع أن إعلام النكسة في عهد عبد الناصر تبني الكذب على الشعب المصري وكان مدجنا وتسيطر عليه المخابرات في صورة الاتحاد الاشتراكي.
لذا حين قال "يا بخت عبد الناصر بإعلامه"، و"عبد الناصر كان محظوظا، لأن هو اللى كان بيتكلم والإعلام معه"، في أحد لقاءاته، خلال تدشين محور تنمية قناة السويس، في 5 أغسطس 2014، كان يعلن بوضوح أنه يسعى بكل السبل لتطبيق نفس نموذج إعلام النكسة في منظومته الجديدة.
وهو ما فعله السيسي طوال سنوات سيطرته على السلطة بل فاق إعلام نكسة عبد الناصر في كثير من الأحيان، وأصبحت رغبته في إعلام يشبه اعلام الستينات الذي قاد إلى الهزيمة حقيقة واقعة وأكثر بؤسا وتعتمد ليس فقط على الكذب بل على التدليس وتآليه الحاكم وتصوير الفشل والفساد على انه إنجازات.
مثلما اهتم الزعيم جمال عبد الناصر بالقضاء على الحياة السياسية اهتم أيضا بالسيطرة على الإعلام وجعله صوتًا واحدًا، وبعد انتهاء صراع مجلس قيادة الثورة مع اللواء محمد نجيب، حل عبد الناصر نقابة الصحفيين عام 1954 بدعوى تقاضي الصحفيين مصروفات سرية.
ثم أغلق عددا كبيرا من الصحف لأنها تنتمي لأحزاب سياسية، فتقلص عدد الصحف اليومية إلى ثلاث فقط هي الأهرام والأخبار والجمهورية، ومجلات أسبوعية منها روز اليوسف والمصور والكواكب وآخر ساعة.
السيسي سار علي نفس الطريق ولكن بتشكيل شركة تديرها مخابرات عباس كامل هي (المتحدة للإعلام) اشترت الصحف والفضائيات الخاصة أو سيطرت عليها بالابتزاز من أصحابها رجال الأعمال، وسيطر على بقية الصحف الحكومية عبر ما اصطلح عليه باسم "موبيل سامسونج" أي عبر أوامر مباشر من ضابط مخابرات حربية للصحفيين ورؤساء التحرير تحدد ما ينشر وما لا ينشر وماذا يكتبوا حتي أنهم ينتظرون أوامره حين تقع أحداث جسيمة ما يثير استغراب المصريين لعدم تغطية الصحف والفضائيات هذه الأحداث إلا متأخرا.
عبد الناصر اعتقل أيضا عددا من الصحفيين على مدار عهده، إلا أنه كان يقرب منه آخرين للترويج للجمهورية التي كان يقودها كان أبرزهم محمد حسنين هيكل (1923 -2016) كما كان يشرف على اختيار رؤساء التحرير.
وفي عام 1960 أصدر جمال عبد الناصر قانون تنظيم الصحافة والذي نقل بموجبه ملكية المؤسسات الصحفية إلى الدولة، كما نص القانون على أنه لا يجوز إصدار صحيفة إلا بترخيص من الاتحاد القومي، كما لا يجوز لأي شخص أن يعمل في الصحافة إلا بترخيص من الاتحاد، كما أعاد عبد الناصر الرقابة على الصحف.
الأمر نفسه فعله السيسي وبصورة أسوأ حيث اعتقل عشرات الصحفيين وأغلق صحف وفضائيات وجمع وقرب صحفيي إعلام النكسة منه ممن يطلق عليه "المطبلتية"، كما دشن لجان ذباب الكترونية تهاجم المعارضين وتقود اتجاهات الراي العام.
أما القوانين التي أصدرها السيسي لتكبيل حرية الصحافة والتعبير والإعلام فطالت حتى المواطن العادي الذي يتم سجنه لو كتب رأيا معارضا أو ناقدا للسلطة عبر فيس بوك أو تويتر!!
وتم طرد الإعلاميين المحسوبين على ثورة يناير من القنوات الخاصة وشن حملة ممنهجة لإرهاب الإعلاميين والنشطاء وممثلي المجتمع المدني والحقوقي شملت القبض على بعضهم بتهم نشر أخبار كاذبة، ومنع بعضهم من السفر وحبس آخرين.
كما تم اقتحام عدة مواقع صحفية إلكترونية، والقبض على مالك صحيفة المصري اليوم، كما منعت طباعة وتوزيع أعداد صحف بعضها محسوبة على النظام منها الوطن وصوت الأمة والبوابة نيوز والمصري اليوم، وأخيرًا في ابريل 2016اقتحام قوات الأمن لنقابة الصحفيين للقبض على صحفيين لجئا للنقابة بعد اقتحام قوات الأمن منزليهما.
ومن خلال قانون الإعلام الموحد سيطر النظام على اختيار الهيئات الإعلامية الثلاثة المنوط بها تنظيم الإعلام المقروء والمسموع والمرئي بعد تغيير بعض مواد القانون بعد عرضه على مجلس النواب، كما أصدر السيسي قانون الإرهاب الذي منع نشر أية أخبار تتعلق بالحرب على الإرهاب إلا من خلال البيانات الرسمية.
حين امتدح السيسي إعلام النكسة في عهد عبد الناصر كان يقصد أن "عبد الناصر محظوظًا لأن إعلامه كان لا ينشر إلا الإيجابيات"، أي أنه كان غاضبا من مجرد نشر أي صحيفة أي أخبار لا تعجب السيسي ويرها تكشف أكاذيب وفساده أمام الشعب.
لذلك سخر الكاتب "محمد العريان" في موقع "correspondents" أو "المراسلين"، 22 يونيو 2017، من تمني السيسي أن يكون لديه إعلام عبد الناصر قائلا: "ما الذي كان ينشره الإعلام في عهد عبد الناصر؟"، مشيرا إلى أنه كان ينشر الأكاذيب وهو ما يريده السيسي.
قال: لم تكن أخبار النصر على إسرائيل عام 67 في الإعلام العربي الكذبة الأولى، لكنها كانت الكذبة الفاضحة التي كشفت عن سلسلة طويلة من الكذب حول قدرات مصر العسكرية والتنموية قبل النكسة.
أوضح أنه في إعلام النكسة المصري أيام عبد الناصر كان زوال إسرائيل مسألة وقت، وكان الشعب ينتظر الحرب لقصف تل أبيب، وحينما جاءت الحرب لم نخسر سيناء فقط ولكن خسرنا أيضًا الروح المعنوية التي كانت من ضمن أهداف الكذب الإعلامي.
كان المشير عبد الحكيم عامر يعلن في العرض العسكري الكبير عن "الصواريخ الجبارة.. الطائرة القاهرة 300 من أقوى الطائرات في العالم"، بحسب مانشيت صحيفة الأخبار في يوليو 1965!!.
قبل أعوام من النكسة كان يشارك الصاروخان القاهر والظافر في عروض عسكرية في الشوارع الرئيسية بالقاهرة، وكان عبد الناصر يقول في خطبه إن مدى "القاهر" يصل إلى 600 كيلو مترا، والظافر يصل إلى 350 كيلو مترا، ويستطيعان بكل سهولة قصف إسرائيل، ثم تبين أنها أكاذيب وكانت هذه الصواريخ مداها 8 كيلو متر!!
الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر 1973 كشف هذه الأكاذيب في مذكراته.
قال: عندما استلمت مهام رئاسة أركان الجيش لم يتطوع أحد ليخبرني بشيء عن القاهر أو الظافر لكنني تذكرتهما فجأة وأخذت أتقصي أخبارهما إلى أن عرفت القصة بأكملها، لن أقص كيف بدأت الحكاية؟ وكيف أنفقت ملايين الجنيهات على هذا المشروع؟ وكيف ساهم الإعلام في تزوير الحقائق وخداع شعب مصر؟(..) ولكنني سأتكلم فقط عن الحالة التي وجدت فيها هذا السلاح وكيف حاولت أن أستفيد -بقدر ما أستطيع- من المجهود والمال اللذان أنفقا فيه.
يضيف في مذكراته عن حرب أكتوبر: لقد وجدت أن المشروع قد شطب نهائيا وتم توزيع الأفراد الذين يعملون فيه على وظائف الدولة المختلفة، أما القاهر والظافر فكانت هناك عدة نسخ منهما ترقد في المخازن، لقد كانت عيوبهما كثيرة وفوائدهما قليلة، لكنني قررت أن استفيد منهما بقدر ما تسمح به خصائصهما، ولقد حضرت بنفسي بيانا عمليا لإطلاق القاهر، ووجدت أن هذا السلاح أقرب ما يكون إلى منجنيق العصور الوسطي (..) وأقصى مدي يمكن أن يصل إليه المقذوف هو ثمانية كيلو مترات".
قال: في أثناء التجربة أطلقنا 4 قذائف على نفس الهدف بنفس الاتجاه ونفس الزاوية فكانت نسبة الخطأ 800 متر !! وهذا يعني أننا إذا قمنا باستخدام هذا السلاح خلال الحرب فأن الرابح الوحيد هو العدو لأننا حينها سنقصف أنفسنا".
نفس الأكاذيب من إعلام عبد الناصر اخترعت أن مصر لديها سفينة فضاء مصرية أذاعته مجلة المصور في أبريل عام 1965 قبل النكسة بعامين، وعلى 10 صفحات ووصفت بقصة الكفاح العلمي والعسكري لإرسال كبسولة فضاء عربية تحمل مصريًا إلى الفضاء، لكن يبدو أنهم كانوا يبيعون الوهم مثلما قالت جريدة الجمهورية قبل النكسة بـ3 أسابيع أن دخل مصر البترولي سيكون أكبر من السعودية وليبيا وإنتاج البترول في الجمهورية سيتضاعف 4 مرات!!
لم يختلف إعلام نكسة السيسي عن عبد الناصر فتحدث عن اختراع طبي لتشخيص الأمراض المستعصية مثل الأيدز وفيروسات الكبد وغيرها ثم تبين أنه جهاز وهمي أطلق عليه المصريون أسم "جهاز الكفتة"!
فمن فبراير 2014 وحتى يونيو من نفس العام كان الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في سجال عنيف بسبب جهاز كشف وعلاج فيروسيي “الكبد الوبائي C” ، و”الإيدز”، الجهاز الذي أعلنت عنه القوات المسلحة في مؤتمر بحضور الرئيس المؤقت عدلي منصور والسيسي سيغير وجه مصر حسب الفريق المشرف على الجهاز، وأعلن الجيش عن بدء التسجيل لعلاج المصابين في أول يوليو 2014، لكن حتى الآن لم يبدأ العلاج.
الوهم لم يقتصر على الجهاز فقط، ففي مارس عام 2015 في أول عام لاغتصاب السيسي السلطة عقدت مصر مؤتمرًا اقتصاديًا في مدينة شرم الشيخ انتهى باستثمارات بلغت 175 مليار دولار حسب مانشيت جريدة الأهرام، لكن في نوفمبر الماضي قررت الحكومة المصرية تعويم الجنيه كأحد شروط صندوق النقد الدولي لإقراض مصر 12 مليار دولار.
بعد نصف قرن من النكسة لم يتعلم النظام أو الإعلام أن نشر الإنجازات الوهمية هو جزء من بيع الوهم للشعب لتدعيم السلطة ولن يؤدي إلا إلى كارثة وفضائح وهذا هو حال الاقتصاد المصرية المنهار يمثل أكبر دليل علي كيف روج إعلام نكسة السيسي لمشاريع وهمية ورفع ديون مصر أربعة أضعاف.
واستخدم النظام عدة أساليب لإحكام السيطرة على الإعلام بعد 30 يونيو 2013 كان أهمها طريقة العصا الغليظة.
وفي 31 يوليو 2019، كشف موقع "الجزيرة نت" حصوله على عدد من الوثائق والتقارير الإعلامية التي يصدرها المركز الإعلامي العسكري في إدارة الشؤون المعنوية بوزارة الدفاع المصرية يعود تاريخها إلى الفترة بين عامي 2016 و2017، تبني استخدام الجيش، وتحديدا الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، وسائل إعلامية لمتابعة اتجاهات الرأي العام وأداء القنوات المؤيدة والمعارضة.
كما يقر الجيش في بعض القضايا بتمكن وسائل الإعلام المعارضة من التأثير على الرأي العام وخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، ويقترح مجموعة وسائل لمواجهة ذلك التفوق.
وتقدم التقارير العسكرية ملخصات من الرصد اليومي للصحافة الإقليمية والعالمية، ونقل مقتطفات تتحدث عن مصر في مختلف وسائل الإعلام، إلا أنها تهتم أكثر برصد الأداء الإعلامي البريطاني والأمريكي والإسرائيلي تجاه مصر والشرق الأوسط عموما.
كما أظهرت تحسسا شديدا لدى إدارة الشؤون المعنوية من الأفكار المتداولة عبر الإعلام الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي أكثر من مرة يتم التحذير من رواج دعوات لمناهضة النظام.
هذه التقارير لا تكتفي بعملية الرصد فقط، وإنما تقدم مؤشرات بيانية من واقع التغطية الإعلامية للقنوات المحلية المصرية، تحتوي اسم القناة والبرنامج، والمذيع، والمدة التي استغرقها النقاش، وتعطي تقييما لتوجه التغطية بشكل عام هل كان سلبيا أو إيجابيا؟ وهل كانت محايدة تجاه عبد الفتاح السيسي والقوات المسلحة والحكومة المصرية؟
وتشمل عمليات الرصد التي تتحدث عنها التقارير جميع القنوات، بما فيها المحسوبة على المعارضة، التي تمكنت (رغم الحظر والتشويه) من التأثير على الرأي العام باعتراف هذه التقارير.
أما أهمية هذه التقارير المسربة فهي تكشف حجم سعي السيسي للسيطرة علي الإعلام وتحويله إلي إعلام نكسة خاص به.