كيف نقرأ التاريخ..وكيف نتعامل مع السنن الكونية؟
الخميس - 16 يونيو 2022
إعداد: أسامة أحمد
"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى و لكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل كل شيء و هدىً و رحمة لقوم يؤمنون" سورة يوسف
- "من عرف التاريخ فقد عاش الدهر كله و جرب الأمور بأسرها و باشر تلك الأحوال بنفسه فيغزر عقله و يصير مجرباً غير غر"
الإمام السيوطي
- "ينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنن الله و أيامه في عباده و دأب الأمم و عاداتهم"
شيخ الإسلام ابن تيمية
- إقرأوا التاريخ إذ فيه العبر ..... ضل قوم ليس يدرون الخبر
أمير الشعراء أحمد شوقي
كيف نتناول تاريخنا؟
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبي الأمي و على آله و صحبه أجمعين
قراءة التاريخ و دراسته ليست كأي قراءة .. ليست – على سبيل المثال - كالقراءة في الأدب مثلاً ، أنت تقرأ في الأدب لتستمتع بأسلوب راق لشعر أو قطعة نثر أو قصة أو أقصوصة، تقرأ و تستمتع بصور بلاغية و محسنات بديعية و تسبح في بحار من الخيال فلا تهتم كثيراً بواقعية ما تقرأ أو مصداقيته .
أما قراءة التاريخ فأنت أمام وقائع ، أثرت في مصائر أفراد و أمم بأسرها ، و ربما – بالنسبة لنا كمسلمين - لا تزال تؤثر بشكل كبير في واقع الأمة كلها سلباً و إيجاباً ، فكما أن حضارتنا شرّقَت و غرّبَت و أحيت مواتاً و أثْرت قيماً و علوماً ، فإن آثار موقعتي الجمل و صفين لا تزال قائمة ، و لا تزال مأساة كربلاء شاخصة في تاريخنا ، و كل هذا أحدث انقسامات عقائدية و سياسية دفعت الأمة ثمنها عبر تاريخها دماءً و أموالاً و أوطاناً ، و لازال الانقسام العميق قائماً !
دراسة التاريخ ليست مجرد قراءة حوادث مسردة و وقائع عن سياقاتها مجردة ، بل إن هذه الحوادث لها دوافع و محركات و نظائر وسياقات نخرج منها بقواعد و استنتاجات لعوامل نهوض الأمم و سقوطها ( و هي قواعد عامة و سنن إلهية تشترك فيها الأمم المسلمة و الأمم الكافرة ) لتكون لنا تجارب تفيدنا في حاضرنا و مستقبلنا، و صدق من وصف التاريخ بأنه مستودع الخبرة البشرية .
و في هذه المحاضرة سنتناول إن شاء الله العناوين التالية:
1- مفاهيم و تنبيهات و حقائق
2- لماذا نقرأ التاريخ
3- خصائص التاريخ الإسلامي
4- كيف نتناول الشخصية التاريخية
5- كيف نتناول الواقعة التاريخية
6- مصادر التاريخ الصحيحة
مدخل و مفاهيم و حقائق
1- تاريخ العالم في الأصل هو تاريخ الإسلام
و هو يبدأ منذ خلق الله آدم عليه السلام و أسكنه وزوجه الجنة، ثم ما تلا ذلك من إغواء الشيطان لهما و من ثم هبوطهما على الأرض بعهد الاستخلاف "و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" سورة البقرة مروراً بالأنبياء و الرسل عليهم السلام , و الصراع الأزلي بين الحق الذي يمثلونه - عليهم السلام - و أتباعهم الكرام إلى أن نصل إلى حملة الرسالة الخاتمة أتباع محمد صلى الله عليه و سلم منذ عصر الرسالة إلى العصر الحديث و الباطل الذي يمثله أعداؤهم .
2- ليس التاريخ هو تاريخ الدول فقط بل هو تاريخ الأمم أيضاَ
فالذي صاغ حضارة الإسلام ليسوا هم الحكام ، بل المجتمع المسلم و في طليعته العلماء و المفكرون و المبدعون الذين قادوا الأمة إلى ما وصلت إليه من منجزات حضارية راقية سواء في العلوم الشرعية من فقه و تفسير و حديث و أصول و علوم اللغة العربية من بلاغة و نحو و بيان أو العلوم التجريبية من طب و كيمياء و رياضيات و فلك ، و عمارة و هندسة و تشييد ، أو العلوم الإنسانية من اجتماع و تاريخ و غيرهما و غير ذلك من تراجم لفلسفات اليونان و غيرهم و التي نقلت إلى أوروبا عن طريق الأندلس . كل هذه المنجزات كانت كثيراً ما تتم في عصور ضعف و تشتت لدول الإسلام بينما كانت الأمة لا تزال قوية لأسباب أهمها أن الخليفة أو الحاكم – قوياً كان أو ضعيفاً ، مستبداً كان أو عادلاً - كان لا يتدخل في التشريع و لا في الحركة العلمية و الفقهية و الدعوية و التربوية ، و الدليل ظهور المدرسة النظامية في فترة ضعف الخلافة العباسية ، و ظهور ابن تيمية و ابن القيم بين القرنين السابع و الثامن الهجريين حيث ضعفت دولة الإسلام أمام هجمات التتار على بلاد الشام ، و كذلك عبد الرحمن ابن خلدون بين القرنين الثامن و التاسع حيث عصر ملوك الطوائف و هشاشتهم و الصراعات بين الممالك المغاربية الضعيفة .
3- التاريخ من العلوم الإنسانية المقاربة و ليس المطابقة
فالتاريخ – على عكس العلوم التجريبية - لا يتوقع دارسُه قراءة نتائج و بيانات و حقائق ثابتة و دقيقة لدى المؤرخين ، فحادثة برواية الطبري قد تختلف تفاصيلها عن رواية الذهبي ، و قد تختلف تفاصيل الروايتين لنفس الحادثة عن رواية ابن كثير أو ابن الأثير ، و هكذا . و مرجع هذا إلى منهجيتهم في الرواية و كذلك اختلاف مصادر كل منهم .
4- ليست التجارب التاريخية أصل نرجع إليه ، لكن لها اعتبارها عندما توضع في سياقها التاريخي و الحضاري
فتحت ضغط الواقع التاريخي قد يتم قبول مواقف سياسية أو أحكام فقهية و تشريعية فرضها ذلك الواقع في حينه ، لكن لا يمكن أن يتخذ ذلك الواقع التاريخي أصلاً يتم الرجوع إليه للاستدلال على جوازه أو مشروعيته ، و إنما يوضع في الاعتبار عند تكرار وقائع مشابهة في بيئة و واقع سياسي مماثل . و مثال ( الحاكم المتغلب ) الذي شاع لتبرير انتزاع العسكر السلطة الشرعية في مصر هو نموذج لهذه التجارب التاريخية التي قبلها المسلون في الماضي على مضض حفاظاً على الدماء و وحدة الأمة .
5- عدم الخلط بين المبادئ و الوسائل
فالمبادئ ثابتة لا تتغير بينما الوسائل تتغير ، فمبدأ الشورى قائم "و أمرهم شورى بينهم" سورة الشورى ، لكن وسائل تحقيق الشورى هي التي تتغير حسب الأحوال زماناً و مكاناً حتى يتم تحقيق المقصد الشرعي للشورى . فقد تتم بصندوق الانتخابات و بالتمثيل النيابي و بالاستفتاءات .... و هناك تأصيل لهذا عندما دار عبد الرحمن بن عوف على دور المسلمين يسأل النساء و العجائز الرأي بشأن اختيار الخليفة الثالث عثمان رضي الله عن الجميع .
6- العصور الوسطى .. بين الظلام و الاستنارة
تعرف العصور الوسطى تاريخياً عند الغرب بالفترة الواقعة بين عامي 500 و 1500 للميلاد . هذه الفترة كانت عصر ظلام و تخلف في أوروبا المسيحية . لكن الحضارة الإسلامية ازدهرت خلال تلك الفترة ، و المعروف أن بدء الوحي ثم انتشار الإسلام و قوته و اتساع مساحة دولته و ازدهار حضارته و سطوعها على الدنيا كان ضمن هذه المساحة الزمنية المعروفة تاريخياً بالعصور الوسطى . و لكن شيوع المصطلح الغربي و ما يحمل من صور ذهنية قاتمة جعل مؤرخي الغرب و من لف لفهم يسحبونه أيضاً على التاريخ الإسلامي ، هذا رغم الفارق الهائل بين الحضارة و الاستنارة عند المسلمين و الجهل و التخلف عند الأوروبيين .
7- التاريخ الكبير و التاريخ الصغير
و هو معنى ذكره المفكر التونسي د. أحمد القديدي . فالتاريخ الصغير يشمل أخبار البلاط و قصور الحكم و ما يدور فيها من إثارة و مؤامرات و صراعات ، و يُقَدّم على أنه تاريخ أمة في حين أنه يشكل حياة شريحة صغيرة من قمة الهرم ، و غالباً ما يكون مثار سخط الأمة و يعمل على تقزيم دورها و تحطيم روحها المعنوية . أما التاريخ الكبير فهو الإنجاز الحضاري للأمة في مجالها العسكري و السياسي و الاقتصادي و الفكري و العلمي و الاجتماعي و القيمي و هو ما يؤكد هوية الأمة و عطاءها . و للأسف كثيراً ما يُقَدّم تاريخنا في صورة ( التاريخ الصغير ) بينما يقدم تاريخ أوروبا في صورة ( التاريخ الكبير )
لماذا نقرأ التاريخ؟
1- حث القرآن الكريم على العلم بالتاريخ: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم"، وقال تعالى "أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم"، والعلم بالتاريخ يكون سماعاً أو قراءةً ، وإن كانت القراءة أفضل كونها تتيح فرصة أفضل للتثبت و البحث و النقد .
2- هو أحد مرتكزات هوية الأمة: مع الدين و اللغة يكوٌن التاريخ ثالثة الأثافي لهوية الأمة . و كما أن محاولات النيل من ثوابت ديننا قائمة و معروفة من خصومه ، و محاربة لغة القرآن و محاولة تحقير شأنها لا تخفى على متابع ، فكذلك تشويه التاريخ قام به مستشرقون خبثاء و أعانهم عليه أبناء لهذا التاريخ لكنهم خونة له و عملاء لمشوهيه .
3- التعرف على عظماء الأمة و قادتها و مصلحيها: لولا دراسة التاريخ ما تعرفنا على عظماء أمتنا الذين هم موضع القدوة و الأسوة ، و لولا الوقائع العظيمة و المنجزات الحضارية و العلمية التي انتصرت فيها أمتنا عسكرياً و علمياً و حضارياً ما كان لنا أن نشحذ الهمم لنستعيد القمم .
4- التعلم من أخطاء الماضي لتصويب مساراتنا: فالتاريخ يتكرر ( أحد و بلاط الشهداء – الإسلاميون و ضباط يوليو 52 و الإسلاميون و ضباط المجلس العسكري 2011 ) في معركة أحد أحسن المسلمون البلاء و كاد النصر أن يتحقق لولا التفات المسلمين و اهتمامهم بالغنائم ، و كذلك في معركة تور – بواتييه المعروفة تاريخياً ببلاط الشهداء اهتم المسلمون في مؤخرة الجيش بما معهم من غنائم أثقلت ظهورهم ، جمعوها من معاركهم أثناء تقدمهم من قرطبة و حتى بواتييه . انتبه الفرنجة لذلك فهاجموهم من جهتها و أربكوهم فكانت هزيمتهم. في يوليو 1952 في مصر وضع الإخوان المسلمون ثقتهم في الضباط (الأحرار) و قدموا لهم العون لنجاح حركتهم فقوبلوا بضربات قاتلة أفقدتهم قادة و كوادر و حرمتهم سنوات طويلة من العمل . و تكرر نفس الأمر مع ثورة يناير 2011 .
5- فهم السنن الربانية: وهي القواعد العامة التي تحكم مسار الأحداث و التي تشترك فيها الأمم المسلمة و الأمم الكافرة ، و عندما نفهمها و نجعلها تحكم مساراتنا فسوف تفيدنا في حاضرنا و مستقبلنا.
ومن هذه السنن:
سُنّة التداول، و هي تعني أنه لا ديمومة لأي دولة أو أي حضارة مهما بلغت من قوة أو عظمة (وهذه السُنّة تقضي على نظرية الأمريكي فرنسيس فوكوياما "نهاية التاريخ")، ليتحقق قول الله تعالى "و تلك الأيام نداولها بين الناس" سورة آل عمران
سُنّة التدافع ، و هي تعني أن أهل الحق يدفعون أهل الباطل لينصروا الحق ، و لو لم يحدث ذلك لساد الباطل و طغى ، و أن أهل الباطل يدفعون أهل الحق لينصروا الباطل ، و لو لم يحدث ذلك لترَهّل أهل الحق و فقدوا قوتهم على المناوشة و التحدي و لسادهم الخمول و لالتفتوا إلى مناوشة بعضهم البعض . ليتحقق قوله تعالى "و لولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض" سورة البقرة
سُنّة النصر و الغلبة، نفهمها من خلال قوله تعالى "إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم" سورة محمد . و قوله "و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم" سورة الأنفال . فلو كان النصر يتطلب مائة عنصر و المسلمون لا يملكون إلا خمسين، فليقدموا ما لديهم و سينصرهم الله و سيزودهم بما فقدوه من إمكانيات.
سنة التغيير ، نفهمها من قوله تعالى "إن الله لا يعير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" سورة الرعد . و قوله تعالى "ذلك بأن الله لم يَكُ مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و أن الله سميع عليم" سورة الأنفال . و هذا القانون الإلهي ينطبق على الأفراد كما ينطبق على الأمم و المجتمعات .
هناك أيضاً سنن التمكين و السقوط و الابتلاء و غيرها يمكن دراستها أو الحديث عنها في موضوع منفصل.
6- التاريخ يلبي احتياجاتنا الدينية و الدعوية و السياسية و المعرفية: الدينية: بعثة النبي – الفرق الإسلامية و عقائدها و أفكارها. التاريخ هو الوعاء الجامع لسيرة النبي صلى الله عليه و سلم و سير الصحابة رضي الله عنهم و تاريخ التشريع الإسلامي ، كما أنه يعرفنا كيف تم جمع القرآن الكريم و السنة المطهرة، و غير ذلك الكثير.
الدعوية: معرفة أخبار العلماء و تجارب الدعاة و بطولات القادة و الفاتحين و الوقائع الخاصة بهم و كيف تعاملوا معها.
السياسية: معرفة كيف ساس قادتنا الأمة في الداخل و كيف تعاملوا في الخارج مع الدول الأخرى صلحاً و حروباً و معاهدات ، و كيف قامت العلاقات و التحالفات السياسية.
المعرفية: تلبية الرغبة العلمية المعرفية في التعرف على شخصيات التاريخ و أحداثه و عصوره.
7- الوقوف على الحقائق التاريخية: و ذلك لمواجهة حملات التشويه و معرفة جذورها و منطلقاتها و دوافعها و أسبابها حتى يمكننا التصدي لها بالحقائق.
خصائص التاريخ الإسلامي
1- موصول بالأنبياء و الرسل من آدم إلى محمد عليهما السلام، فالأصل و القاعدة في تاريخ البشرية الإسلام. و الشرك استثناء و خروج عن الأصل ، و آيات القرأن الكريم كثيرة في هذا المعنى . نقول هذا لأن هناك محاولات ناشزة لاختزال تاريخ الإسلام مكاناً في جزيرة العرب و زماناً في عصر الرسالة ، و أحياناً عصر الخلفاء الراشدين الأربعة .
2- منضبط و دقيق و موثق و قائم على العقيدة الصحيحة و منقول بالسند إلى محمد صلى الله عليه و سلم أو الصحابي أو التابعي أو صاحب الحدث أو من عاينه . بينما نجد الأناجيل الحالية عبارة عن خليط من الوحي و كلام عيسى عليه السلام و كلام الحواريين و شيء من التاريخ . و للباحثة د. عزية علي طه دراسة قيمة بعنوان "منهجية جمع السنة و جمع الأناجيل" تتناول مقارنة بينهما .
3- مليء بالتفاصيل المهمة بخلاف تواريخ الأمم الأخرى ، و يكفي أن تتصفح دائرة المعارف البريطانية بحثاً عن أحد أعظم الشخصيات الأوروبية و هو ريتشارد الأول ( قلب الأسد ) لتجد أن حوالي خمس صفحات فقط تتحدث عنه ، بينما الذهبي يتناول أحمد ابن حنبل في حوالي مائتي صفحة و الشافعي في مائة صفحة . و لا يتصور أحد أن الذهبي أو غيره من المؤرخين يكرر و يعيد أو يطيل فيما لا فائدة فيه و هو يتناول تراجم الشخصيات التاريخية من أمثالهما .
4- مليء بالحيوية و التجدد فعندما اشتد ضعف دولة الخلافة العباسية قبل سنواتها الأخيرة قامت دولة السلاجقة لتحمي كيان الأمة الإسلامية ، بل و تقتطع من الدولة البيزنطية الأناضول بعد هزيمتها في ملاذكرد . و عندما فقدنا الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي كانت القسطنطينية قد تم فتحها قبل ذلك بأربعة عقود . و عندما دخلنا عصر الانحطاط بعد القرن العاشر الهجري كانت تبزغ في الشرق دولة قوية هي دولة مغول الهند ثم في غرب إفريقية دولة عثمان بن فودي في نيجيريا.
5- يحمل البشرى لمستقبلنا . فارتباط تاريخنا بالوحي بما يحمل من بشريات النصر يجعلنا نستبشر خيراً بمستقبل أفضل بشرط أن نستجمع ما نستطيع من عناصر النصر "و كان حقاً علينا نصر المؤمنين" سورة الروم . كما يحمل البشرى بأن العدد ليس الشرط الحاسم في تحقيق النصر "إن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله" سورة الأنفال ، و "لن يغلب قوم عن قلة" أخرجه أبو داوود و الترمذي و أحمد . و أيضاً يبشرنا بفتوحات عظيمة ، فلما سئل صلى الله عليه و سلم أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية ؟ قال: "مدينة هرقل تفتح أولاً" يعني القسطنطينية أخرجه أحمد و الحاكم . فكان هذا الحديث يشكل دوافع قوية لأكثر من خليفة أو سلطان مسلم فكانت المحاولات الحثيثة لتحقيق نبوءة النبي صلى الله عليه و سلم حتى حققها السلطان محمد الفاتح رحمه الله . و تظل البشرى بفتح رومية ( روما ) قائمة، و ستتحقق حتماً بإذن الله.
6- ارتباط تاريخنا بالعقيدة و التشريع و قيمنا العليا، كانت العقيدة الإسلامية دائماً هي المحرك الرئيس للأحداث ، فما الذي جعل ربعي بن عامر الأعرابي البسيط يدخل إيوان كسرى بثيابه الرثة و رمحه يمزق رياش و طنافس القصر و هو يعلن بمنتهى الجرأة "إن
الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد و من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة و من جور الأديان إلى عدل الإسلام"؟ وما الذي جعل ألب أرسلان السلطان السلجوقي يلبس كفنه و يجمع جيشه المكون من 12 ألف و يتبايعون جميهم على الموت و ينطلقون لمقاتلة رومانوس القائد البيزنطي و جيشه (أكثر من 200 ألف) ويهزمهم في ملاذكرد؟ و الشواهد من معارك المسلمين كثيرة .
و من الذي جعل نور الدين محمود يستدعي أمهر النجارين ليصنعوا منبراً للمسجد الأقصى الذي كان وقتها في أسر الصليبيين و كان واقع الأمة وقتها مزرياً حيث تفكُك الشام و عداءُ كل حاكم مدينة لأخيه ، بل و استعداء الصليبيين عليه ؟ و ما الذي جعل شمس الدين آق يلحُّ في تعليم الصبي محمد بن مراد حديث النبي صلى الله عليه و سلم عن فتح القسطنطينية و عن فضل من يفتحها ليكون ذلك الصبي هو محمد الفاتح ؟ لا شك أنها العقيدة!
و ظلت الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع طوال الحكم الإسلامي حتى في فترات الضعف و التفكك، بل إن أشد الحكام استبداداً و فتكاً لم يجرؤ أن يحيد عنها . و في ظل التشريع الإسلامي العادل و قيمه العليا توحدت الجنسيات و الأقليات فنبغ غير العرب من فرس و أعاجم و ترك : فكان أصحاب السنن : البخاري ( الأوزبكي ) و مسلم ( الفارسي ) و أبو داوود ( الفارسي ) و النسائي ( التركماني ) و ابن ماجه ( القزويني ) و الترمذي ( الأوزبكي ). بل أنهم اقتحموا مجال اللغة العربية ! فكان الزمخشري صاحب أساس البلاغة ( الأوزبكي ) و كان الرازي صاحب مختار الصحاح و الفيروز آبادي صاحب القاموس المحيط ( الفارسيين )
8- تاريخنا شامل، والشمول متجلٍّ في تناوله جوانب الدنيا والدين، فالقارئ يجد فيه أخبار الدول ( السياسي ) و أخبار الأمم (الاجتماعي و الحضاري) كما يجد فيه أخبار الصالحين، ويجد فيه أخبار التجار كما يجد فيه أخبار الفجار، ويجد فيه القصص النافعة، والتجارب المتنوعة . لا يُغفِل التاريخ شيئاً، ولا يدع شاردة ولا واردة إلا ويتناولها من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وهذا قلما تجده في تاريخ أمة من الأمم، أما عندنا فالأصل في كتب التاريخ أنها كذلك.
9- تاريخنا واسع: تاريخنا واسع كبير جداً، تحويه ملايين من الصفحات، وكتب التاريخ الإسلامي يبلغ تعدادها عشرات الآلاف، معظمها مفقود أو مخطوط، وهناك تاريخ عام يتناول تاريخ أمة الإسلام من القرن الأول إلى عصر المصنف، وهناك تواريخ خاصة ، فما من مدينة معروفة في الإسلام تقريباً إلا ولها تاريخ، وما من أهل علم أو صناعة أو فن إلا ولهم تاريخ، بل تعدى اهتمام مؤرخينا إلى الملل الأخرى فأتوا على ذكرها بوقائع مفصلة أو مجملة، وهذه السعة في التأليف ليست لأمة من الأمم إلا لأمة الإسلام.