الأم المناضلة.. رمزٌ يُقاوم التزييف الإعلامي

الخميس - 20 مارس 2025

- حنان عطية
( كاتبة صحفية )

حنان عطية

تاتي مناسبة يوم الأم هذا العام وسط تباين كبير في التعامل معها إعلاميا، فبين مظاهر التكريم والاحتفاء، والتهميش والنسيان، تكمن تفاصيل كثيرة، كلها تتعلق بالانتقائية وفق معايير لا تراعي الإنصاف.

ففي مصر غابت المرأة التي قاومت استبداد السلطة واضطهادها عن خريطة الإعلام، وغابت معاناتها وصمودها أمام نظام قمعي لم تشهد مصر مثله منذ عهد "عبدالناصر" الذي تولى حكم بعد انقلاب شبيه بانقلاب "السيسي" في ٢٠١٣م.

ومنذ ثلاثة عشر عامًا من الاستبداد المستمر، تحملت المرأة، سواء في جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها من القوى الرافضة للظلم، معاناة هائلة وتضحيات جسام، ومع ذلك، ظل الإعلام يتعمد تجاهل قضيتها، رغم ما واجهته من اعتقالات مباشرة، أو اعتقال أبنائها، أو زوجها، أو أقرب الناس إليها. لم تقتصر معاناتها على السجون، بل امتدت إلى التضييق الاقتصادي ومحاصرتها في مصدر رزقها، وفرض عقوبات غير عادلة على كل من يحاول التخفيف من آلامها أو مدّ يد العون لها.

ورغم جسامة المأساة، غابت هذه المشاهد بالكامل عن خريطة الإعلام الرسمي، وكأنها لم تكن، على الرغم من أن المرأة، كأم وزوجة وابنة، قدمت من التضحيات ما يجعلها جديرة بلقب "الأم المثالية"؛ فقد أمضت ساعات وأيامًا أمام السجون والمعتقلات، تنتظر زيارة نادرة لأحبّتها، حتى ارتقت كثيرات منهن شهيدات في ساحات الانتظار أو أثناء طريقهن لرؤية أزواجهن وأبنائهن، بل إن بعضهن عانين من فقدان الأبناء والأزواج، بعدما حُرموا من رؤيتهم لسنوات طويلة، إذ ظل بعض المحبوسين في عزلة تامة لأكثر من عشر سنوات دون زيارة واحدة.

وفي مقابل التعتيم الذي مارسه إعلام السلطة، حظيت معاناة المرأة الصامدة في مواجهة الانقلاب بتغطية واضحة في الإعلام المناهض له، حيث برزت أفلام وثائقية ومقاطع مصورة تسلط الضوء على آلامها، لا سيما عبر المنافذ الإعلامية المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تعبر عن نبض الشارع الحقيقي.

ولم يقتصر اهتمام الإعلام المناهض للانقلاب على المرأة المنتمية لجماعة الإخوان المسلمين أو التيار الإسلامي فحسب، بل امتد ليشمل جميع الفئات التي تعرضت للظلم والاضطهاد من قبل السلطة، وكان ذلك جليًا في التغطية الإعلامية لحالة الدكتورة منى سيف، والدة الناشط علاء عبد الفتاح، حيث حظي إضرابها عن الطعام باهتمام واسع، سلط الضوء على معاناتها كامرأة تبلغ من العمر 68 عامًا، تخوض إضرابًا عن الطعام منذ عدة أشهر، في محاولة للضغط على الحكومة البريطانية، التي تحمل جنسيتها، كي تمارس نفوذها على سلطة الانقلاب.

المرأة الفلسطينية

ولا يمكن الحديث عن المرأة المثالية وصورتها في الإعلام هذا العام دون التوقف عند المرأة الفلسطينية، وبخاصة المرأة الغزاوية، التي قدمت خلال معركة "طوفان الأقصى" نموذجًا أسطوريًا في الصمود والنضال، حيث جسّدت ملحمة حقيقية للمرأة الفلسطينية والمسلمة، التي وقفت بشجاعة في وجه الاحتلال الصهيوني على مدار ثمانين عامًا، مبهرة العالم بثباتها وتمسكها بأرضها ورفضها التهجير تحت القصف، ولم تتوانَ عن تقديم نفسها وعائلتها فداءً لله، ولتحرير الوطن والمسجد الأقصى. 

وكانت زوجة القائد إسماعيل هنية مثالًا حيًا لهذه المرأة الصابرة، إذ واجهت فقدان أبنائها وأفراد عائلتها دون أن تجزع، بل ودّعت شريك عمرها الذي استُشهد في عملية اغتيال جبانة بنفس الثبات الذي تحلّت به عند تلقيها نبأ استشهاد أبنائها وأحفادها من قبل.

ولم تكن صورة "أم العبد" وحدها حاضرة في مشهد الصمود، بل برزت أيضًا زوجة عدنان البرش، جراح العظام الشهير الذي استشهد تحت التعذيب في سجون الاحتلال بعد "طوفان الأقصى"، وآلاف النساء الفلسطينيات اللواتي ودّعن أبناءهن وأزواجهن مرددات العبارات التي أصبحت شعارًا للصمود: "كله فداءً لفلسطين والأقصى"، و"كله فداءً للمقاومة"، و"خذ من دمائنا يا رب حتى ترضى".

لا شك أن المرأة الغزاوية استحقت بجدارة لقب "أم العرب والمسلمين والعالم"، وكانت بلا منازع الأم المثالية لهذا العام، بعد أن صمدت وقدّمت وضحّت في مواجهة واحدة من أشرس المعارك التي استهدفت الأبرياء، وفي مقدمتهم النساء والأطفال والمرضى، الذين قُصفت البيوت والمستشفيات فوق رؤوسهم، على مرأى ومسمع من العالم.

ورغم هذا الجرح النازف، لم تغب المرأة الفلسطينية عن المشهد الإعلامي، فقد حظيت بتغطية كبيرة في الإعلام المناصر لقضيتها، الذي سلط الضوء على تضحياتها، وأبرز صمودها الأسطوري في وجه آلة عسكرية وحشية لم تفرق بين مقاتل ومدني، واستهدفت النساء والأطفال والمرضى بلا رحمة.

مفاهيم مغلوطة

وبالعودة إلى حالة التجاهل والتهميش التي تعامل بها إعلام الانقلاب مع معاناة المرأة الصامدة أمام الاستبداد، نجد أنه بذل جهدًا كبيرًا في تشويه صورة نضالها، والاستخفاف بصبرها، بل وتوجيه الاتهامات إليها.

وفي المقابل، حرص هذا الإعلام منذ عام 2017 على إعادة برمجة العقل المصري ومحاولة تعديل ثوابته، حيث فاجأ المجتمع المصري بنماذج غريبة وغير معتادة على جائزة الأم المثالية، عندما أعلن منح إحدى الراقصات لقب "الأم المثالية"، مما أصاب المجتمع بصدمة لا تقل في غرابتها عن صدمة الانقلاب نفسه.

وقد كانت الرسالة الصادمة لهذا الاختيار المتعمد هي الانقلاب على قيم المجتمع ودستوره الأخلاقي والاجتماعي، بما لا يعكس هوية المجتمع المصري وقيمه النبيلة، بل يمثل نهجًا تبناه الانقلاب وإعلامه للترويج لقيم دخيلة أدت إلى اعتبار الراقصة تاجًا على رأس المرأة المصرية، بل وعنوانًا لها في تلك المرحلة الشاذة من تاريخ مصر.

بوصلة واضحة

 وبين تجاهل الإعلام الرسمي للمرأة الصامدة ومحاولته تصدير نماذج منافية لطبيعة المجتمع، تظل معايير احترام المجتمع المصري للمرأة الأكثر كفاحًا قائمة، حيث يُقدّر كل أم تربي أبناءها تربية حسنة، لتصنع منهم مواطنين نافعين ومتميزين في المجتمع.

وتظل معايير المجتمع المصري تنظر بإكبار لكل أم مصرية تكافح ظروف الحياة الصعبة، وتحيط بيتها وأسرتها بالرعاية، كالقابض على الجمر؛ حتى تبلغ بهم بر الأمان، وتربيهم بالحلال، وعلى الدين والقيم، ليصبحوا عناصر مفيدة للأوطان، وللإسلام، وللبشرية.

هذه هي الصورة الحقيقية للأم المثالية، التي تستحق أن تلاحقها الكاميرات، ويُحتفى بها بالكلمات، وستظل متربعة على عرش إعلامنا المقاوم وذاكرتنا التي استعصت على كل محاولات البرمجة الإعلامية التي مارسها الانقلاب لتشويه رمزية الأم.

وستبقى هذه الأم المناضلة هي الجائزة الحقيقية للأوطان، التي ينبغي أن نقف لها احترامًا، على ما تقدمه للبشرية من كفاح يزيد من ثراء التاريخ الإنساني، الذي تغذّيه مثل هذه النماذج المثالية.