الإخوان المسلمون في مذكرات "هيلاري كلينتون"
الاثنين - 24 مايو 2021
حقيقة موقف الإدارة الأمريكية من مصر ومكوناتها السياسية (2009-2013م)
إعداد- مركز إنسان للدراسات الإعلامية
- من خطاب جامعة القاهرة 2009 إلى انقلاب 2013.."أوباما" يخذل ديمقراطية مصر
- حسني مبارك.. مستبد على شعبه.. خادم نشط للمصالح الصهيونية الأمريكية!!
- الرؤية الأمريكية لضرورة التغيير قبل ساعات من ثورات الربيع العربي
- كيف قيمت الإدارة الأمريكية أحداث ثورة يناير في بدايتها ولماذا كانت حريصة على بقاء مبارك؟
- هاجس صعود الإخوان استنفر إدارة أوباما للضغط على مبارك لتحقيق إصلاحات عاجلة
- هيلاري تشاطر "أبو الغيط" خوفه من "تحكم" الإسلاميين: "الانتخابات ليست كافية"!
- إدارة أوباما كانت تأمل بسيطرة مجموعات ليبرالية على الحكم بدلا من الإخوان أو الجيش
- فوز الإخوان بالرئاسة وضع الإدارة الأمريكية على "حبل مشدود" خوفا على "مصالحها الاستراتيجية"
- كيف تعامل الأمريكان مع مخاوف الأقباط من الإخوان؟ وكيف رأوا حكم مرسي و السيسي؟
- كيف حاولت هيلاري اختبار قدرة مرسي على تحقيق الأمن في سيناء؟ وما دلالة "مذبحة الحدود"؟
- قلق أمريكي إسرائيلي من رد فعل "مصر الثورة" على حرب غزة 2012 ومحاولة التوسط لدى "مرسي"
- هيلاري تعترف: مرسي رجل دولة نجح في وقف الحرب على غزة وإعادة مكانة مصر التاريخية
مقدمة:
عندما أصدرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، هيلاري كلينتون، مذكراتها "خيارات صعبة" في 2014م، تناولتها وسائل إعلام معادية لجماعة الإخوان المسلمين، ومواقع تواصل تابعة لكل من مصر والسعودية والإمارات، على نحو مغاير لما ورد بها، حيث تعمدت تلك الوسائل والمواقع تحريف النصوص ولي أعناقها بهدف تشويه صورة الجماعة.
المذكرات جاءت في 600 صفحة بنسختها الإنجليزية الأصلية الصادرة عن دار "سيمون آند شوستر" في 10 يونيو 2014م، ونحو 637 صفحة في النسخة العربية التي اعتمدنا عليها في هذه القراءة، والتي نشرتها "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت" في طبعة أولى عام 2015م.
ما يخص مصر في مذكرات هيلاري ورد في الجزء الخامس المعنون بـ"الاضطرابات"(الصفحات من 297- 457 في الطبعة العربية)، ومنه بالأخص الفصل الرابع عشر بعنوان "الشرق الأوسط: مسار السلام المتقلقل"، والخامس عشر بعنوان "الربيع العربي: الثورة"، والعشرون بعنوان "غزة: خطة لوقف إطلاق النار"، أما الفصول الباقية من هذا الجزء وهي من السادس عشر حتى التاسع عشر، فتتناول الأوضاع في ليبيا وسوريا وإيران.
والحقيقة أن ما ورد بشأن جماعة الإخوان المسلمين في المذكرات هو شهادة لصالح الجماعة وليس ضدها، وهو في مجمله - برؤية تحليلية دقيقة- منصف للجماعة، إلا أنه يكشف حقيقة أن موقف الأمريكان من الإخوان هو موقف توجس وريبة وخوف من وصولهم إلى السلطة في أي وقت، لأسباب يراها الأمريكان تتعلق بمصالحهم الاستراتيجية والأمنية في المنطقة، ولتقديرهم أن وجود الإخوان في الحكم سيهدد حقوق الأقليات الدينية وبالأخص المسيحيين في مصر، ويهدد أمن إسرائيل.
في هذا التقرير نقدم قراءة تحليلية لما ورد بشأن مصر والإخوان المسلمين والرئيس مرسي، لنتعرف على منظور الإدارة الأمريكية (الديمقراطية في عهد أوباما) لنظام الحكم الذي كانت ترغبه في مصر، ونظرتها للإخوان ولطريقة إدارة الرئيس مرسي للحكم في البلاد، ولنكتشف إجمالا أن الأمريكان، ديمقراطيين كانوا أم جمهوريين، يفضلون لمصر - كما لبلدان المنطقة- حكما مستبدا مستقرا يلبي مصالحهم، على حكم ديمقراطي تعددي يخدم مصالح المصريين.
******
- من خطاب جامعة القاهرة 2009 إلى انقلاب 2013.."أوباما" يخذل ديمقراطية مصر
قالت كلينتون، في صفحة 311، ضمن حديث عن القضية الفلسطينية: "لقد أعاد خطابان مهمان تشكيل المشهد الدبلوماسي في يونيو 2009، أولا: في القاهرة عرض الرئيس أوباما إعادة تقويم طموحة وبليغة لعلاقة أمريكا بالعالم الإسلامي."
قصدت هيلاري بهذا خطاب أوباما من داخل جامعة القاهرة، والذي لم يرد بالطبع في مذكراتها لكنه قال فيه نصا: "لقد أتيت إلى هنا للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الاسلامي استنادا الى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل وهي بداية مبنية على أساس حقيقة أن أمريكا والاسلام لا يعارضان بعضهما البعض ولا داعي أبدا للتنافس فيما بينهما بل ولهما قواسم ومبادئ مشتركة يلتقيان عبرها ألا وهي مبادئ العدالة والتقدم والتسامح وكرامة كل انسان".
ثم تحدث عن "بعض الأمور المحددة" التي كان يرى أنه يتعين على الأمريكان والمسلمين مواجهتها بجهد مشترك، وهي: مجابهة التطرف العنيف بكافة أشكاله، والوضع ما بين الاسرائيليين والفلسطينيين والعالم العربي، وحقوق الدول ومسئولياتها بشأن الاسلحة النووية، والديمقراطية، والحرية الدينية، وحقوق المرأة، والتنمية الاقتصادية.
وحول الديمقراطية تحديدا قال:"إن نظام الحكم الذي يسمع صوت الشعب ويحترم حكم القانون وحقوق جميع البشر هو النظام الذي أؤمن به... ومع ذلك يلازمني اعتقاد راسخ أن جميع البشر يتطلعون لامتلاك قدرة التعبير عن أفكارهم وآرائهم في أسلوب الحكم المتبع في بلدهم ويتطلعون للشعور بالثقة في حكم القانون وفي الالتزام بالعدالة والمساواة في تطبيقه ويتطلعون كذلك لشفافية الحكومة وامتناعها عن نهب أموال الشعب ويتطلعون لحرية اختيار طريقهم في الحياة. إن هذه الأفكار ليست أفكارا أمريكية فحسب بل هي حقوق إنسانية وهي لذلك الحقوق التي سوف ندعمها في كل مكان.
لا يوجد طريق سهل ومستقيم لتلبية هذا الوعد، ولكن الأمر الواضح بالتأكيد هو أن الحكومات التي تحمي هذه الحقوق هي في نهاية المطاف الحكومات التي تتمتع بقدر أكبر من الاستقرار والنجاح والامن. ان قمع الافكار لا ينجح أبدا في القضاء عليها. ان أمريكا تحترم حق جميع من يرفعون أصواتهم حول العالم للتعبير عن آرائهم بأسلوب سلمي يراعي القانون حتى لو كانت اراؤهم مخالفة لارائنا وسوف نرحب بجميع الحكومات السلمية المنتخبة شرط أن تحترم جميع أفراد الشعب في ممارستها للحكم.
إن الحكومة التي تتكون من أفراد الشعب وتدار بواسطة الشعب هي المعيار الوحيد لجميع من يشغلون مراكز السلطة بغض النظر عن المكان الذي تتولى فيه مثل هذه الحكومة ممارسة مهامها.. اذ يجب على الحكام أن يمارسوا سلطاتهم من خلال الاتفاق في الرأي وليس عن طريق الاكراه ويجب على الحكام أن يحترموا حقوق الاقليات وأن يعطوا مصالح الشعب الاولوية على مصالح الحزب الذي ينتمون إليه".
برغم هذا الكلام القاطع خذلت إدارة أوباما الديمقراطية الوليدة في مصر بعد ثورة يناير 2011م، إذ بدا موقفها مضطربا في البداية من انقلاب 2013م على أول رئيس مدني منتخب، ثم سرعان ما تعاملت مع الانقلاب على أنه أمر واقع، بل وصل الأمر حد "تواطؤ الإدارة مع السيسي".
كان الموقف الرسمي الأمريكي إزاء الانقلاب العسكري في مصر يوم الثالث من يوليو 2013 يدل على "انتقائية" واشنطن للتجارب الديمقراطية؛ فقد عدت الولايات المتحدة أحداث 30 يونيو انتفاضة شعبية ضد الرئيس محمد مرسي، إذ جاء على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض، غاي كارني: "إن الرئيس مرسي لم يكن يحكم بطريقة ديمقراطية وإن ملايين المصريين خرجوا للشوارع والميادين مطالبين بعزله وهم يرون أن مساندة الجيش لهم لا تشكل انقلاباً".
وعلى الرغم من إشادة الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" بالعملية الديمقراطية في مصر عبر مكالمة هاتفية مع الرئيس محمد مرسي قُبيل الانقلاب بيومين، إلا أن الموقف الرسمي الأمريكي "وقع" في حيرة من أمره، كون مصر تمثل عمقاً استراتيجياً للمصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي. وبالتالي، فإن مصالحها وأهدافها تقتضي التصرف وفق "المصلحة القومية العليا" على حساب مبادئ العقيدة الأمريكية "الديمقراطية".
في ذلك الوقت، صورت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية "جين باكي" الصورة الأوضح في الموقف الرسمي الأمريكي: "لم تكن حكومة مرسي تشكل حكماً ديمقراطياً، وخرج حوالي 22 مليون مصري للتعبير عن آرائهم وإظهار أن الديمقراطية ليست مجرد الفوز في صناديق الاقتراع"!.
وكشف تقرير، أعده مدير مكتب صحيفة "نيويورك تايمز" السابق في القاهرة ديفيد كيركباتريك، في يوليو 2018م، الموقف الحقيقي لأهم أعضاء إدارة ترامب من الإخوان المسلمين، ومن تيارات الإسلام السياسي بشكل عام. وبحسب ترجمة أعدتها صحيفة "عربي 21" تضمن التقرير ما يلي:
أولا- خلافا للاعتقاد السائد بأن أوباما كان الرجل القوي في البيت الأبيض، فإنه في الحقيقة كان مكبلا بخصوص دعم انتفاضات الربيع العربي. فقد كان الرئيس يعاني من خلافات داخل إدارته تجاه "نفس القضايا التي تحدد الآن معالم سياسة ترامب"، مثل "طبيعة التهديد الذي يشكله الإسلام السياسي، وضرورة الوفاء للحلفاء الطغاة مثل حكام الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وصعوبة تحقيق تغير ديمقراطي في مصر وفي المنطقة"، بحسب التقرير.
لقد انقسمت الإدارة إلى طرفين حسب التقرير، طرف يمثله أوباما ومستشاروه ويدفع باتجاه "إحداث تغيير في السياسة الأمريكية القائمة والتأسيس لعلاقة جديدة مع العالم العربي بهدف مواجهة التطرف المعادي للغرب وقطع الطريق عليه"، ويحث "على ضرورة احترام نتائج الانتخابات الحرة في مصر"، فيما وقف معظم المسؤولين في إدارته في الجانب الآخر، وكانوا يعبرون "عن مخاوف قديمة متجددة من الخطر الكامن في الإسلامي السياسي" ويروجون لوجود "عقبات تحول دون نجاح الديمقراطية في مصر".
ولكن أوباما استسلم لوجهة نظر الفريق المناهض له، عندما قبل باستيلاء العسكر على السلطة، بعد يوم واحد من الإطاحة بالرئيس مرسي.
ثانيا- مارس بعض رموز إدارة أوباما ما يمكن أن يعتبر "خيانة" لتعليمات الرئيس أوباما تجاه الانقلاب في مصر. فعلى سبيل المثال كان البيت الأبيض يرسل إلى وزير الدفاع تشاك هيغل أفكارا يقصد منها تحذير السيسي من الانقلاب، ومن عقوبات أمريكية في حالة الإطاحة بالرئيس المنتخب، ولكن هيغل أوصل رسالة مختلفة تماما كما أكد مسؤول كبير سابق في مجلس الأمن القومي لكاتب التقرير، حيث كان يؤكد للسيسي حرص الولايات المتحدة على علاقات جيدة مع مصر بدلا من تحذيره من خطورة الانقلاب على الديمقراطية.
ويقول كاتب التقرير إن هيغل أخبره في مقابلة عام 2016 أنه خاطب السيسي قائلاً: "أنا لا أعيش في القاهرة، أنت تعيش فيها. عليك أن تصون أمنك وأن تصون بلادك".
ويبدو من هذه التفاصيل، أن هيغل كان ينقل للسيسي ما يؤمن به هو وليس ما يرغب أوباما بنقله، وهو ما يؤكد أن القيادات العسكرية الأمريكية ضالعة في دعم الانقلاب، وأنها تفضل أن تستمر بالتعامل مع العسكريين المصريين، بحكم العلاقة الوثيقة بين الطرفين منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
ثالثا- يكشف التقرير تفاصيل عن الاتصال الأخير بين الرئيس أوباما والرئيس مرسي في الأول من تموز/ يوليو 2013، حيث حث أوباما مرسي على التوصل إلى تسوية مع معارضيه المدنيين بحيث تتحول رئاسته إلى حكومة وحدة وطنية تقريباً، فيما شكره مرسي على النصيحة وأخبره بأنها "متأخرة"، لأن مرسي كان فعليا في ذلك الوقت محتجزا في مقر الحرس الجمهوري بالقصر الرئاسي.
ويدل هذا الاتصال على سقوط الرواية التي روجتها وسائل إعلامية مصرية مرتبطة بالانقلاب بخصوص دعم إدارة أوباما لحكومة مرسي، إذ أن أقصى ما قام به الطرف الأقل حماسا للانقلاب في هذه الإدارة هو تقديم النصيحة المتأخرة لمرسي بعقد تسوية مع معارضيه.
رابعا- يكشف التقرير توافقا سعوديا إماراتيا إسرائيليا تجاه رفض الديمقراطية في مصر، والعداء مع الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين. فقد مارست كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، ضغوطا كبيرة على إدارة أوباما لدعم الانقلاب العسكري، ولإقناع واشنطن بخطر الإخوان المسلمين والرئيس مرسي على المصالح الأمريكية، بسبب "ذعرهما من الانتخابات ومن فكرة اعتبارها إسلامية"، فيما مارست إسرائيل ضغوطا مشابهة بسبب خوفها من تهديدات للحدود ودعم لحركة حماس من مصر تحت حكم الرئيس مرسي.
وقد أخبر وزير الدفاع الأمريكي السابق تشاك هيغل كاتب التقرير، في مقابلة أجريت عام 2016م، بأنه كان محاصراً بالشكاوى الموجهة ضد الرئيس مرسي من إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وقال السيد هيغل إن ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان، الحاكم الفعلي للإمارات ورئيس قواتها المسلحة، وصف جماعة الإخوان المسلمين بأنها "باتت اليوم العنصر الأخطر على الأرض في الشرق الأوسط"، وأكد هيغل أنه اتفق معهم جميعاً وأنه سعى إلى طمأنتهم قائلاً للإماراتيين: "إن الإخوان المسلمين خطرون ونحن ندرك ذلك".
كما يكشف التقرير أن مسؤولين أمريكيين علموا بعد الانقلاب العسكري، أن الإمارات كانت توفر دعماً مالياً سرياً لتنظيم الاحتجاجات ضد الرئيس مرسي.
خامسا- خلافا لما تروجه السلطات المصرية عن أن الانقلاب كان قرارا مصريا خالصا، يؤكد التقرير أن المسؤولين العسكريين نسقوا مبكرا مع قادة الجيش المصري للإطاحة بمرسي، وأن هؤلاء المسؤولين أصبحوا يتحاورون بشكل دائم مع نظرائهم المصريين منذ ربيع عام 2013 حول "الهموم المتبادلة حول الرئيس مرسي".
سادسا- لم يكن تأييد الانقلاب مقتصرا على المسؤولين العسكريين، بل إن رئيس الدبلوماسية الأمريكية وزير الخارجية في إدارة أوباما جون كيري كان من أشد المتحمسين للانقلاب، خلافا لما روجته وسائل إعلامية تابعة للسلطة في مصر.
ويكشف التقرير أن كيري، المعروف بعلاقاته المتميزة مع أمراء خليجيين منذ أن كان عضوا في مجلس الشيوخ، ظل يعبر باستمرار عن ارتيابه وعدم ثقته بالإخوان المسلمين. وعندما زار القاهرة لأول مرة كوزير للخارجية في مارس/ آذار من عام 2013، لم يعجبه الرئيس مرسي وشكل عنه انطباعاً سلبياً.
كما علم وزير الخارجية جون كيري بشكل مبكر عن الانقلاب أثناء لقائه بوزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي على انفراد، بعد يومين من لقائه بمرسي. ويشير كاتب التقرير ديفيد كيركباتريك إلى أن كيري أخبره فيما بعد أن الجنرال السيسي قال له في ذلك اللقاء "أنا لن أسمح لبلدي بأن تنساب في المجاري." وأنه أدرك حينها أن "الطبخة قد أعدت لمرسي"، وأضاف كيركباتريك أن كيري أخبره بأنه شعر جزئياً بالارتياح لأنه خلص إلى أن الجنرال السيسي على استعداد للتدخل.
سابعا- يكشف التقرير أن السياسة الأمريكية لا تقوم على أسس "أخلاقية" بل إنها مرتبطة تماما بالمصالح، ويبدو هذا واضحا من الدور الذي لعبه جون كيري في إقناع الرئيس أوباما بأن ما جرى في مصر ليس انقلابا، قبل أن يبرر موقفه هذا في وقت لاحق بكون الولايات المتحدة بحاجة إلى السعوديين والإماراتيين والإسرائيليين من أجل أولويات أخرى، وأنه لم يكن يرغب "في الدخول معهم في مشاكسة حول أمر يتضح من التاريخ أنه الطريقة التي تعمل بها مصر".
ثامنا- يكشف التقرير حقيقة باتت مكررة عن تأييد "إسرائيل" للسيسي حتى قبل تنفيذ الانقلاب، حيث كان الزعماء الإسرائيليون قد قالوا لوزير الدفاع تشاك هيغل إنهم يعولون على الجنرال السيسي لأنهم كانوا قلقين من أن يقوم الإخوان المسلمون بتهديد الحدود أو بمساعدة حماس. بينما كان الجنرال السيسي نفسه قد أخبر السيد هيغل بأنه "توجد بعض القوى الشريرة جداً على الأرض – أنتم لا تستطيعون فهمها كما نفهمها نحن هنا".
تاسعا- يكشف التقرير الموقف الحقيقي لبعض رموز إدارة أوباما، الذين أصبحوا أعضاء مؤثرين فيما بعد في إدارة ترامب، من "الإسلام السياسي"، ويؤكد أن رفضهم للإسلاميين لا يتعلق بتورط بعض الجماعات الإسلامية بالعنف، بل بكونهم إسلاميين أصلا بغض النظر عن طبيعة الأفكار التي يتبنونها.
ومن الأمثلة على ذلك وزير الدفاع جيمس ماتيس، الذي يرى أن الإخوان المسلمين ما هم سوى لون آخر من ألوان القاعدة، وأن الإسلاميين "كلهم يسبحون في نفس البحر"، وهو تقريبا نفس الرأي الذي يحمله مايكل فلين رئيس وكالة الاستخبارات العسكرية أثناء إدارة أوباما ومستشار الأمن القومي السابق لترامب، الذي صرح بأن الإخوان المسلمين والقاعدة "يحملون نفس الأيدولوجيا".
وقد أعلن ماتيس أكثر من مرة تأييده لرئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي، وصرح في ندوة قبل تعيينه وزيرا للدفاع بأن دعم السيسي ضروري "لتقليص كم الأمور السلبية التي تحيط بالدين الإسلامي".
وبعد أن نصَّب السيسي نفسه رئيسا للبلاد في 8 يونيو 2014م بعد انتخابات صورية، استقبله أوباما صبيحة الجمعة 29 سبتمبر 2014م، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك وقيل ساعتها إن أوباما "طالب السيسي بإطلاق سراح الصحفيين المحتجزين"، إضافة إلى "إعرابه عن قلقه البالغ إزاء وضع حقوق الإنسان في مصر".
ووصف الرئيس الأمريكي العلاقة الطويلة بين الولايات المتحدة ومصر، في مؤتمر صحفي قبيل اللقاء، بأنها "حجر الزاوية بالنسبة للسياسة الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط".
الخلاصة أن الموقف الأمريكي تجاه الانقلاب والمتمثل في دعم الحكومة اللاحقة، يعكس في الواقع أهمية الرهانات التي تعقدها الولايات المتحدة على ذلك الانقلاب، وسعيها إلى إعادة العلاقات المصرية الأمريكية إلى ما قبل ثورة 25 يناير 2011م.
******
- حسني مبارك.. مستبد على شعبه.. خادم نشط للمصالح الصهيونية الأمريكية!!
تتحدث "كلينتون" في صفحة 318، عن استضافة مصر لمؤتمر للسلام الفلسطيني الإسرائيلي في شرم الشيخ في سبتمبر 2010م، ثم تعلق:"كان مضيفنا هذه المرة الرئيس مبارك، الذي ناصر بشدة حل الدولتين والسلام في الشرق الأوسط، على الرغم من أنه مستبد في بلاده".
هكذا كانت ترى الإدارة الأمريكية مبارك وحكمه، إلا أنها حتى تلك الساعة لم تكن تحرك ساكنا بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر.
مبارك المستبد هذا خدم مصالح إسرائيل بشكل مرضي عنه أمريكيا، وقدم مبادرة سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في يونيو/ حزيران 1989، وفق إعلان رسمي، وظل وسيطا مسيَّرا في هذا المضمار 20 عاما، إلى أن جاء "السيسي" وأكمل المهمة ولكن بشكل منحاز تماما للصهاينة، وبعمالة مكشوفة.
تقول كلينتون في مذكراتها، صفحة 324:"لم أكن المسئولة الأمريكية الأولى التي تضغط من أجل تحقيق الإصلاح، فوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس زارت مصر في عام 2005، وأدلت باعتراف لافت:"طوال نصف قرن اختارت الولايات المتحدة السعي إلى الأمن على حساب الديمقراطية ولم تحقق أي منهما".
سيختلف الأمر من الآن وصاعدا، على ما وعدت، ودعا الرئيس أوباما أيضا إلى إصلاحات ديمقراطية، بعد أربعة أعوام، في خطاب مهم ألقاه في القاهرة.
وعلى الرغم من كل هذا الكلام الملقى علنا، وآخر صريح أكثر قيل سرا، والجهود الحثيثة للشعوب بمختلف مكوناتها وطبقاتها لحمل بلدانها إلى الحرية والازدهار بقيت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معظمها حتى العام 2011، سجينة الركود السياسي والاقتصادي. خضعت دول كثيرة للأحكام العرفية طوال عقود، وتفشى الفساد في المنطقة علي كل المستويات، خصوصا أعلاها.
كانت الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع شبه معدمة أو مقيدة في إحكام. والأنظمة القضائية غير حرة أو غير مستقلة، والانتخابات إذا أجريت فمزورة غالبا. هذا الوضع المؤسف في إدارة شئون الدول بلغ حدا مأساويا في نوفمبر 2010 حين أجرت مصر انتخابات برلمانية معيبة قضت تقريبا على الرموز السياسية المعارضة".
كانت تلك آخر انتخابات فى عهد حسني مبارك، وكما وصفها البعض بأنها "القشة التى قصمت ظهر البعير"، فحجم التزوير الفج الذى مارسه النظام فاق الخيال، والذى أسفر عن سقوط جميع مرشحى الإخوان في الجولة الأولى التي أجريت يوم 28 نوفمبر 2010م، بجانب اعتقال الآلاف.
وفي 4 ديسمبر 2012م، يوم إجراء الجولة الثانية، أعلن الإخوان المسلمون وحزب الوفد انسحابهم من الانتخابات لما شابها من تزوير وترويع أمني في المرحلة الأولى.
وسبق تلك الانتخابات البرلمانية استعدادات امنية كبيرة، برزت فيها اتهامات بالمسؤولية متبادلة بين أجهزة النظام الحاكم بزعامة الحزب الوطني الديموقراطي المهيمن والمتسلط على رقاب الناس في البلاد ، والمعارضة المتعاظم قوتها شعبيا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وما صاحب ذلك من أعمال عنف وترهيب وترغيب في الآن ذاته، بين الحزب الحاكم والمعارضة بكل أطيافها.
رغم هذا الاحتقان الداخلي، كان حسني مبارك مشغولا ومهتما جدا بتحقيق مصالح الصهاينة. تقول هيلاري في صفحة (325): "بينما كنت أتحضر لزيارة الشرق الأوسط مجددا. تعاملت كثيرا عامي 2009 و 2010 مع الرئيس المصري حسني مبارك وملك الأردن عبدالله الثاني، لجمع الزعيمين الإسرائيلي والفلسطيني وإجراء محادثات سلام مباشرة، لنشهد انهيارها بعد ثلاث جولات من المفاوضات المهمة.
وفي صفحة (330)، تقول كلينتون:"التقيت مبارك خلال أعوام، قدرت دعمه الثابت لاتفاقات كامب ديفيد والتوصل إلى حل الدولتين للإسرائيليين والفلسطينيين، حاول كثيرا، أكثر من أي زعيم عربي، إقناع عرفات بقبول اتفاق السلام الذي فاوض عليه زوجي عام 2000، ولكن على الرغم من شراكته مع الولايات المتحدة على أمور استراتيجية رئيسة، خيب الآمال بعدما أمضى في السلطة أعواما طويلة وظل نظامه يحرم الشعب المصري معظم حرياته الأساية وحقوق الإنسان ويسئ إدارة الاقتصاد. تحت حكم مبارك كافح البلد الذي عرفه المؤرخون باسم "سلة الخبز في العصور القديمة" لإطعام شعبه وأصبح أكبر مستورد للقمح في العالم".
******
- الرؤية الأمريكية لضرورة التغيير قبل ساعات من الربيع العربي
وجهة نظر الإدارة الأمريكية في حالة الاحتقان السياسي في مصر وغيرها من الدول العربية لخصتها هيلاري كلينتون بقولها (ص 324 وما بعدها): "بدا أن معظم زعماء السلطة وسماسرتها في المنطقة مستعدون لمواصلة إدراة الشؤون العامة فيها على ما كانت الحال دوما، على الرغم من كل المشكلات.
أما الإدرات الأمريكية المتعاقبة، وعلى الرغم من نياتها الحسنة، فإن الواقع اليومي لسياستها الخارجية أعطى الأولوية للضرورات الاستراتيجية والأمنية الملحة، من مثل مكافحة الإرهاب ودعم إسرائيل والحد من طموحات إيران إلى امتلاك السلاح النووي، على حساب الهدف الطويل الأمد الذي يقضي بتشجيع الإصلاحات الداخلية في دول شركائنا العرب.
ومما لاشك فيه أننا ضغطنا على الزعماء في شأن الإصلاح، لأنه يعزز الاستقرار والازدهار الشامل على الأجل الطويل، لكننا انخرطنا معهم أيضا في مجموعة واسعة من المخاوف الأمنية، ولم نأخذ جديا في الحسبان قطع علاقاتنا العسكرية معهم.
ولقد تحدثت مع ما يكفي من الزعماء العرب طوال أعوام، لأدرك أن معظمهم غير راض عن بقاء الأمور على ما هي عليه، يريدون التغيير شرط أن يتم في بطء.
بحثت عن سبل لبناء علاقات شخصية معهم وثقة متبادلة، وفهم وجهات نظرهم الثقافية والاجتماعية التي تؤثر في تصرفاتهم، والدفع إلى التغيير متى رأيت ذلك ممكنا.
فشل الزعماء العرب، ومعظمهم شركاء أمريكا، في استيعاب الحاجة إلى التغيير، فإنهم يخاطرون بفقدان السيطرة على مواطنيهم الشباب والمهمشين ويشرعون الأبواب أمام الاضطرابات والصراعات والإرهابيين. هذا هو الرأي الذي سأعلنه من دون المجاملات الدبلوماسية المعتادة التي تميع الرسالة".
وبالفعل وجهت كلينتون رسالتها للزعماء العرب في في افتتاح "منتدى المستقبل" في الدوحة يوم الخميس 13 يناير 2011 قبل انطلاق شرارة الربيع العربي في تونس في اليوم التالي، قالت "هيلاري": "يمكنكم المساعدة على بناء المستقبل الذي تؤمن به شعوبكم الفتية وتناصره وتدافع عنه، وإن لم يحدث ذلك فالجمود الراهن الذي يتمسك به البعض قد يكون قادرا على لجم التأثير الكامل لمشكلات بلدانهم لبعض الوقت ولكن ليس إلى الأبد".
وبحسب كلينتون فإن "آخرين سيملاون الفراغ" اذا ما فشل القادة في إعطاء رؤية ايجابية "للشباب وسبل حقيقية للمشاركة".
واعتبرت أن: "العناصر المتطرفة والمجموعات الارهابية والجهات الاخرى التي تتغذى من الفقر واليأس، موجودة على الارض وتنافس على النفوذ (...) لذا انها لحظة دقيقة واختبار للقيادة بالنسبة لنا جميعا".
تقول كلينتون:"حين انتهيت علق الصحفيون الأمريكيون الذين يرافقونني في جولتى على كلامي القاسي في رأيهم. تساءلت: هل يلي ذلك إجراء؟".
******
- كيف قيمت الإدارة الأمريكية أحداث ثورة يناير في بدايتها ولماذا كانت حريصة على بقاء مبارك؟
تقول كلينتون في مذكراتها (ص 329 وما بعدها): "في 25 يناير تفاقم الاحتجاجات في القاهرة ضد إجراءات الشرطة الوحشية، وتحولت تظاهرات إلى ضخمة ضد نظام حسني مبارك الاستبدادي. احتل عشرات آلاف المصريين ميدان التحرير في وسط العاصمة، وقاوموا جهود الشرطة لإجبارهم على التفرق. يوما بعد يوم تضاعفت الحشود في الساحة وصوبت على هدف واحد: خلع حسني مبارك عن رأس السلطة.
وقد عرفت حسني مبارك وزوجته سوزان منذ حوالي 20 عاما، ... أصيب مبارك في الهجوم المتطرف الذي اغتال السادات عام 1981، لكنه نجا وغدا رئيسا وقمع، في صرامة، الإسلاميين والمعارضين الآخرين، حكم مصر مثل فرعون بسلطة شبه مطلقة طوال ثلاثة عقود".
وتتابع: "وضعت احتجاجات مصر إدارة أوباما أمام وضع دقيق، عُد مبارك حليفا استراتيجيا رئيسا طوال عقود، على الرغم من أن مثل أمريكا العليا تنسجم أكثر مع الشباب الداعي إلى "الخبز والحرية والكرامة". حين سألني صحفي عن الاحتجاجات في يومها الأول، سعيت إلى إجابة مدروسة تعكس مصالحنا وقيمنا، فضلا عن عدم اليقين المحيط بالوضع، تجنبا لصب مزيد من الزيت على النار فقلت: نحن ندعم الحق الأساسي في حرية التعبير والتجمع لجميع الناس، ونحث جميع الأطراف على ضبط النفس ونبذ العنف، لكن الحكومة المصرية مستقرة وفق تقييمنا، وتبحث عن سبل لاستجابة احتياجات الشعب المصري ومطالبه المشروعة، وتبين أن النظام غير مستقر، لكن قلة من المراقبين أمكنها توقع حد هشاشته.
وقد انضم الرئيس أوباما في 28 يناير إلى اجتماع لفريق الأمن القومي في غرفة العمليات في البيت الأبيض، وطلب منا توصيات تتعلق بطبيعة التعامل مع أحداث مصر، دار النقاش حول الطاولة وغصنا مجددا في الأسئلة التي أربكت صناع السياسة الأمريكية أجيالا: كيف يمكننا تحقيق التوازن بين المصالح الاستراتيجية والقيم الأساسية؟. هل نستطيع التأثير بنجاح في شئون الدول الأخرى الداخلية وتغذية الديمقراطية حيث لم تنشأ يوما من دون تكبد عواقب سلبية غير مقصودة؟ ماذا يعنى أن تتخذ الجانب الصحيح من التاريخ؟"
وانجرف بعض مساعدي الرئيس أوباما في البيت الأبيض، من مثل كثر غيرهم من الشباب في العالم، في درامية تلك اللخظة ومثاليتها، وهم يشاهدون الصور من ميدان التحرير على التليفزيون، اندمجوا مع التطلعات الديمقراطية للمتظاهرين المصريين الشباب ومعرفتهم العلمية والتكتكنولوجية.
في الواقع، تأثر الأمريكيون من كل الأعمار والاتجاهات برؤيتهم هذا الشعب الذي قمع طويلا يطالب أخيرا بحقوق الإنسان العالمية، ونفروا من القوة المفرطة التي استخدمتها السلطات ردا عليهم. شاطرتهم هذا الشعور، فاللحظة كانت مثيرة، لكننى قلقت، على ما فعل نائب الرئيس بايدن ووزير الدفاع بوب غايتس، ومستشار الأمن القومي توم دونيلون، ألا نُعد كأننا نتخلى عن شريك قديم، لنسلم مصر وإسرائيل والأردن والمنطقة ككل إلى مصير مجهول وخطر.
أما الحجج التي تشير إلى وقوف أمريكا وراء المتظاهرين، فتتجاوز النظرة إلينا كمثاليين. كانت مناصرة الديمقراطية وحقوق الإنسان في صلب قياتنا للعالم أكثر من نصف قرن. نعم تهاونا من حين إلى آخر بهذه القيم خدمة لمصالحنا الاستراتيجية والأمنية، بما يشمل الدعم البغيض للطغاة المناهضين للشيوعية خلال الحرب الباردة، مع نتائج مختلفة، ولكن صعب علينا اللجوء إلى هذه التسويات أمام الشعب المصري المطالب بحقوقه المشروعة والفرص التي قلنا دائما إنه، وجميع الشعوب، يستحقونها.
وفيما بدا ممكنا في السابق التركيز على مبارك، الذي دعم السلام والتعاون مع الإسرائيليين ومطاردة الإرهابيين، بات من المستحيل راهنا إنكار الحقيقة وهي أنه مستبد ذو قبضة حديدية، رأس نظاما فاسدا ومتحجرا.
وعلى الرغم من ذلك، تبقى من الأولويات الملحة المصالح الأمنية الوطنية التي دفعت الإدارات السابقة إلى المحافظة على علاقات وطيدة مع مبارك: مازالت إيران تحاول بناء ترسانتها النووية، وتنظيم القاعدة يخطط لهجمات جديدة، أما قناة السويس فطريق حيوية للتجارة، وأمن إسرائيل ضروري جدا، على ما كان دائما.
كان مبارك شريك في كل هذه المجالات على الرغم من مشاعر شعبه المناهض لأمريكا والمعادي لإسرائيل. خدمت بلاده بصفة كونها محورا للسلام في منطقة مضطربة، هل نحن مستعدون للتخلي فعلا عن هذه العلاقة بعد 30 عاما من التعاون؟
وإذا قررنا أنه الخيار الصحيح، كان يستحيل تبيان مقدار التأثير الذي يمكن أن نتركه على الأحداث الميدانية، فخلافا للاعتقاد السائد بمنطقة الشرق الأوسط لم تكن الولايات المتحدة يوما محرك دمى قويا قادرا على تحقيق النتائج التي يريدها.
ماذا لو طلبنا من مبارك التنحي ورفض وتمكن من البقاء في السلطة؟ ماذا لو تنحى وتلت ذلك مرحلة طويلة من الفوضى الخطرة، أو حكومة غير ديمقراطية تخلفه، تعارض بشدة مصالحنا واهتماماتنا الأمنية؟ في الحالين ستختلف علاقتنا عما كانت عليه ويُقوض نفوذنا في المنطقة، وسيرى الشركاء الآخرون طريقة تعاملنا مع مبارك فيفقدون الثقة بعلاقتهم معنا.
بهذه الأقوال لهيلاري كلينتون يتضح جليا أن الإدارة الأمريكية كانت متفاجئة من ثورة مصر ومرتبكة في تقدير مآلاتها في الوقت نفسه، إلا أن المؤكد من كلامها أن أمريكا كانت- ومازالت- تتعامل مع حكام المنطقة كقطع شطرنج تديرهم لتحقيق مصالحا، دون أي اعتبار لتطلعات الشعوب، وبعيدا عن أي قيم توهم العالم بأنها تؤمن بها.
وتقر هيلاري بهذه الأقوال، وللمرة الثانية في سياق مذكراتها، أن مبارك كان خادما قويا للمصالح الأمريكية الإسرائيلية، مستبدا شديد الاستبداد على شعبه.
كانت ثورة يناير أقوى اختبار لمصداقية الإدارة الأمريكية في قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان لكنها أخفقت في هذا الاختبار عندما خذلت الثورة المصرية.
******
- هاجس صعود الإخوان استنفر إدارة أوباما للضغط على مبارك لتحقيق إصلاحات عاجلة
عبرت هيلاري كلينتون عن خوف الإدارة من صعود الإخوان للحكم إذا نجحت ثورة يناير، مقدمة لذلك بمثال الثورة الإيرانية التي قالت عنها:" ثبت تاريخيا ان الانتقال من الديكتاتوريه إلى الديمقراطيه محفوف بالمخاطر وتنجم عنه، في سهولة، أخطاء فادحة. في إيران عام 1979،على سبيل المثال، قبض المتطرفون على الثورة الشعبية الواسعة ضد الشاه وأنشأوا ثيوقراطيه وحشية. إذا حدث أمر مشابه في مصر فستحل كارثة على شعبها وعلى المصالح الإسرائيليه والأمريكيه كذلك".
وقالت (ص 332): "على الرغم من حجم الاحتجاجات في ميدان التحرير، افتقدت إلى القيادة، ودفعتها وسائل التواصل الاجتماعي وتواتر الأخبار، بدلا من حركة معارضة متماسكة بعد أعوام على حكم الحزب الواحد، لم يحسن المتظاهرون في مصر الاستعداد لخوض انتخابات حرة أو بناء مؤسسات ديمقراطية ذات صدقية.
على نقيض ذلك كانت جماعة الاخوان المسلمين المنظمة الإسلامية التي تأسست قبل ثمانين عاما، في موقع جيد يمكنها من ملء الفراغ إذا سقط النظام".
وتابعت: "أجبر مبارك الاخوان المسلمين على العمل سرا، وانتشر أتباعهم في أرجاء البلاد، وكانوا ذوي نفوذ محكمي التنظيم. نبذت الجماعة العنف وتخلت عن السلاح وبذلت جهودا لكي تظهر معتدله ولكن كان من المستحيل أن نعرف كيف ستتصرف و ما الذي سيحدث إذا تمكنت من القبض على الحكم.
وقد دفعتني كل هذه الآراء إلى التمهل ونُصحت بوجوب التزام الحذر، ووافقني في ذلك نائب الرئيس وغايتس ودونيلون. اذا سقط مبارك، على ما قلت للرئيس "قد تنصلح الأمور بعد 25 عاما، ولكن حتى ذلك الوقت ستكون المرحلة قاسية على الشعب المصري والمنطقة، وعلينا"، لكنني عرفت أن الرئيس لن يستريح فيما المتظاهرون يتعرضون للضرب والقتل في الشوارع. أحتاج الى مسار يحث مصر على الاتجاه نحو الديمقراطيهة، وإنما يجنبها الوقوع في الفوضى إذا انهار النظام فجاة.
وحاولت في البرنامج التلفزيوني "ميت ذي بريس" (لقاء مع الصحافة)، الأحد 30 كانون الثاني/ يناير إرساء دعائم نهج دائم "يعتمد الاستقرار طويل الأمد على استجابة احتياجات الشعب المصري المشروعة، وهو ما نريد أن يحدث"، وعليه، على ما قلت نأمل في أن نشهد "انتقالا سلميا ومنظما إلى النظام الديمقراطي"، وقد استعملت كلمة "منظم" بدلا من فوري عمدا، على الرغم من أنه لا يحظى بتاييد بعض الأوساط في البيت الأبيض.
أراد البعض في فريق عمل الرئيس أن ألمح إلى تنحى مبارك أو أن أطالب به، لكنني التزمت رأيي. من الضروري أن يساعد خطابي مصر على تحقيق معظم الإصلاحات التي يسعى إليها المحتجون بطريقة سليمة وهادئة بدلا من التسرع الذي قد تنجم عنه صدمة قاسية على الجميع، وهو ما يجب ان يعتمده في تصريحاتهم ايضا أعضاء الإداره الآخرون.
وحين تحدث ذلك الأسبوع مع وزير الخارجية المصرية أحمد أبو الغيط حثثت الحكومة المصرية على التحلي بضبط النفس وإبداء الاستعداد للاستجابه لمطالب الشعب. "سيكون صعبا على الرئيس مبارك أن يطرح هذه القضيه ويسمعه الشعب بعد 30 عاما إلا إذا أجرى انتخابات حرة ونزيهة من دون أن يحاول تدبير خلف له يفرض فرضا" على ما قلت لأبي الغيط "هذا العمل لا يمكن إتمامه غدا"، على ما أجاب "تقتضي الأحداث الآنية تهدئة الشعب وإعادة الاستقرار إلى البلاد".
لكن مبارك لم يكن يصغي حتى عندما تصاعدت حدة الاضطرابات وبدت سيطرة النظام على البلاد تضعف. ألقى خطابا مملوءا بالتحديات في وقت متقدم من ليل 29 كانون الثاني/ يناير أقال فيه كثر من وزراء حكومته لكنه رفض الاستقالة أو الحد من ولايته الرئاسية.
وقد أوصيت الرئيس أوباما بأن يوفد مبعوثا خاصا من قبله؛ ليتحدث مع مبارك وجها لوجه ويقنعه بإعلان حزمة قوية من الإصلاحات، بما يشمل وضع حد لقانون حالة الطوارئ القمعي الذي يسري في البلاد منذ العام 1981م، وتعهد عدم الترشح إلى الانتخابات المقررة في أيلول/ سبتمبر، والاتفاق على عدم تعيين ابنه جمال خلفا له. قد لا ترضي هذه الخطوات الجميع، لكنها ستعد تنازلات مهمة وتتيح الفرصة امام المحتجين لينتظموا قبل الانتخابات.
واقترحت لهذه المهمة الدقيقة فرانك ويزنر، أحد كبار الدبلوماسيين المتقاعدين، والذي عين سفيرا في مصر بين العامين 1986 و 1991 وجمعته بمبارك علاقة صداقة قوية، وأمضيا ساعات يتناقشان في شئون المنطقة والعالم، و مثل صديقه ريتشارد هولبروك تدرب ويزنر على الدبلوماسية شابا في فيتنام قبل أن يمثل بلادنا في كل النقاط الساخنة في العالم.
أدركت أن ما من أمريكي يمكنه الوصول إلى مبارك وإقناعه مثل ويزنر، لكن البعض في البيت الأبيض شكك في ويزنر ومهمته.أصدروا حكما قاطعا بخسارة مبارك، وبدأ الرئيس اوباما يفقد صبره، لكنه وافقني أخيرا على إعطاء الدبلوماسية فرصة أخرى.
التقى ويزنر مبارك في 31 كانون الثاني/ يناير ونقل إليه رسالتنا، استمع مبارك لكنه لم يتزحزح عن موقفه قيد أنملة، بدا منهكا وربما حتى مشوشا مما يدور حوله من أحداث.
وقد ساءت الأوضاع أكثر في القاهرة. تدخل أنصار النظام بالقوة في التظاهرات واشتبكوا مع المحتجين، واجتاح رجال يحملون الهراوات وأسلحة أخرى ميدان التحرير على ظهور الجمال والخيول، وانهالوا على الناس بالضرب، وشجوا رؤوس البعض. اتصلت بنائب الرئيس سليمان لأوضح له أن هذا القمع العنيف غير مقبول إطلاقا، فلم تكرر القيادة المصرية هذا التكتيك في الأيام التالية".
يتضح من هذا الكلام جليا، أن الإدارة الأمريكية كانت تراهن على بقاء مبارك في الحكم مع إحداث إصلاحات ديمقراطية، إلى أن جاءت موقعة الجمل فقلبت الموازين وغيرت حسابات الإدارة الأمريكية.
******
- هيلاري تشاطر "أبو الغيط" خوفه من "تحكم" الإسلاميين: "الانتخابات ليست كافية"!
تقول هيلاري كلينتون في مذكراتها (ص 335): تحدثت مرة أخرى مع وزير الخارجية أبي الغيط في 4 فبراير 2011، بدا في المحادثات السابقة واثقا ومتفائلا، لكنه لم يستطع آنذاك إخفاء خيبة أمله وحتى يأسه. وشكا من دفع الولايات المتحدة مبارك خارج الحكم في شكل غير رسمي، ومن دون أخذ العواقب في الحسبان. اسمعي ما يقوله الإيرانيون، على ما أوعز إلي، فهم حريصون على الاستفادة من انهيار مصر المحتمل.
تملكه الخوف من سيطرة الإسلاميين وقال لي: "لي حفيدتان إحداهما في السادسة والأخرى في الثامنة، أريدهما أن تترعرعا لتكونا مثل جدتهما ومثلك، وليس لترتديا النقاب على غرار ما يحدث في المملكة العربية السعودية، هذا كفاح حياتي".
وتردد صدى كلماته في رأسي وأنا أتوجه إلى ألمانيا للمشاركة في "مؤتمر ميونيخ للأمن"، وهو تجمع بارز للقادة والمفكرين من مختلف أنحاء العالم. ماذا يعني حقيقة كل حديثنا عن دعم الديمقراطية؟ بالتأكيد أكثر من مجرد انتخاب واحد ولمرة واحدة، إذا حرمت حكومة جديدة منتخبة المرأة المصرية حقوقها وفرصها في النجاح فهل تعد تلك ديمقراطية؟ وماذا عن الأقليات من مثل المسيحيين الأقباط في مصر إذا اضطهدوا وهمشوا؟ إذا تخلى مبارك عن الرئاسة وبدأت مصر مرحلة انتقالية، يجدر طرح هذه الأسئلة عما سيحدث لاحقا، لأنها ستصبح ملحة وذات صلة بالموضوع.
في مؤتمر ميونيخ، أشرت الى ضرورة بقائنا متيقظين للمخاطر المتأصلة في أي مرحلة انتقالية، فالانتخابات الحرة والنزيهة لا غنى عنها، لكنها ليست كافية. يفرض الأداء الديمقراطي سيادة القانون والقضاء المستقل والصحافة الحرة والمجتمع المدني، واحترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والحكم الخاضع للمساءلة، ففي بلد مثل مصر التي خضعت طويلا للحكم الاستبدادي، سيتطلب وضع هذه اللبنات الديمقراطية في مكانها قيادة قوية وشاملة وجهدا متواصلا من مختلف شرائح المجتمع، فضلا عن الدعم الدولي، ولا يتوقعن أحد أن تظهر بين ليلة وضحاها.
لعل كلماتي ذلك اليوم بدت خارجة عن السرب، مع كل الأمل والتفاؤل اللذين شعر بهما كثر وهم يتابعون الاحتجاجات في القاهرة، لكنها عكست التحديات التي توقعتها.
وشارك ويزنر في المؤتمر نفسه، عبر الأقمار الصناعية، ليبدي رأيه في الموضوع مواطنا عاديا، إذ لم يعد يمثل الإدارة في أي مهمة.
استاء البيت الأبيض من مناقشته مهمته علنا، على الرغم من أنه تعهد ألا يفعل، وأثار ويزنر موجات من ردود الفعل بقوله إن مبارك يجب ألا يتنحى فورا، وعليه أن يشرف على المرحلة الانتقالية. بدت تصريحاته كلها تتعارض مع كلام الرئيس، وانزعج البيت الأبيض لأن ويزنر لم يلتزم مضمون البيان الرسمي الصادر عنه. اتصل بي الرئيس ليعبر عن عدم رضاه عن الرسائل المتناقضة التي نبثها، وكانت تلك طريقة دبلوماسية ليقول لي إنه سيستغنى عن خدماتي".
******
- إدارة أوباما كانت تأمل بسيطرة مجموعات ليبرالية على الحكم بدلا من الإخوان أو الجيش
تقول هيلاري في ( ص336 وما بعدها): "أدرك الرئيس أن أمريكا لا تسيطر على أحداث مصر، لكنه أراد إحقاق الحق، بما يتماشى علي السواء مع مصالحنا وقيمنا، وهذا ما أردته أيضا. عرفت أن مبارك بقي طويلا في السلطة، ولم يحقق الا القليل لكنني تطلعت إلى ما أبعد من التخلص منه، والناس في ميدان التحرير لا يملكون خطة، فالذين فضلوا من بيننا المسار البطيء للانتقال المنظم قلقوا لأن القوتين الوحيدتين المنظمتين بعد مبارك هما جماعة الاخوان المسلمين والجيش.
وقتل حتى 10 فبراير مئات المصريين في اشتباكات مع القوات الأمنية، وغذى العنف غضب المحتجين ومطالبتهم باستقالة مبارك، وسرت إشاعات أنه سيرضخ أخيرا للضغوط، وازدادت التوقعات مع خطاب جديد وجهه إلى الأمة، وأعلن هذه المره نقل بعض صلاحياته إلى نائب الرئيس سليمان، لكنه ظل يرفض التنحي او تقبل فكرة الانتقال التي ستفقده نفوذه، وثارت الحشود في ميدان التحرير.
وتقبل مبارك أخيرا الهزيمة في اليوم التالي، 11 فبراير، فأطل نائب الرئيس سليمان على شاشات التليفزيون وقد بدا منهك القوى يعلو الاصفرار وجهه، وأعلن أن الرئيس قد تنحي وتخلى عن كل صلاحياته للقيادة العسكرية.
وقرأ متحدث باسم الجيش بيانا يتعهد بإجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة و"استجابة مطالب الشعب المشروعه"، أما مبارك فلم يقل شيئا، وبدلا من ذلك غادر القاهرة في هدوء إلى مقر إقامته على البحر الأحمر، علي عكس زين العابدين بن علي، لم يفر من البلاد وبقي وفيا لوعده "سأموت في مصر"، وتركه فعل عناده الأخير هذا يتعرض للمحاكمة والعقاب، وأمضى الأعوام التالية في الإقامة الجبرية أو في المحكمة أو في المستشفى و قد تدهورت حالته الصحية.
زرت القاهرة بعد حوالي شهر، و مشيت في ميدان التحرير على الرغم من قلق فريقي الأمني، الذي لم يعرف ما الذي يمكن أن يحدث إذ كانت الأوضاع مبهمة، وحين احتشد المصريون حوالي تلقينا رسالة كرم وحسن ضيافة، "نشكر لكم حضوركم"، قال البعض فيما صاح آخرون "أهلا بكم في مصر الجديدة"، وقد شعروا بالفخر لنجاح ثورتهم.
التقيت من ثم عددا من الطلاب والناشطين الذين أدوا دورا قياديا في التظاهرات. دفعني فضولي إلى سؤالهم عن خططهم للانتقال من الاحتجاج إلى العمل السياسي، واقتراحاتهم لوضع الدستور الجديد وخوض الانتخابات المقبلة، فوجدتهم مجموعة غير منظمة وغير مستعدة لخوض أي شيء أو التاثير في شيء. لم يملكوا الخبرة السياسية ولم يفقهوا طريقة تنظيم الأحزاب والترشح إلى الانتخابات وإدارة حملاتها، لم يؤسسوا قواعد حزبية وانتخابية ولم يبدو اهتماما بإرسائها، بدلا من ذلك تجادلوا فيما بينهم وألقوا اللوم على الولايات المتحدة لارتكابها أخطاء كثيرة، ورفضوا جدا السياسة الانتخابية.
"هل فكرتم في تشكيل ائتلاف سياسي للعمل معا على برامج انتخابية معينة و ترشيح أشخاص من قبلكم؟"، على ما سألتهم، حدقوا إلي ولم يستطيعوا الجواب، وقد ساورني القلق من تسليمهم البلاد للإخوان المسلمين أو الجيش نتيجة تقصيرهم، وهو بالضبط ما حدث.
من هنا يتضح أن إدارة أوباما كانت حريصة على "تسييس" مجموعات شبابية ليبرالية، أو حتى من مشارب شتى، لتولي شئون الحكم دون الإخوان أو الجيش، لكنها عندما لم تجد جاهزية كافية لدى شباب الثورة أسقط في يدها واستسلمت للأمر الواقع، وهذا ينفي تماما فكرة دعم الإدارة للإخوان، والتي ما زال يرددها إعلام "الثورات المضادة".
******
- فوز الإخوان بالرئاسة وضع الإدارة الأمريكية على "حبل مشدود" خوفا على "مصالحها الاستراتيجية"
تواصل هيلاري بقولها (ص 337): "تولى منصب الرئاسة آنذاك وزير الدفاع في عهد مبارك المشير محمد طنطاوى الذي وعد بالإشراف على انتقال سلمي إلى حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيا.
وحين تحدثت مع طنطاوى عن خططه لانتقال السلطة شعرت كيف اختار كلماته في عناية، محاولا إنقاذ جيشه العزيز من حطام نظام مبارك، وحماية شعبه، على ما وعد الجيش بأن يفعل، والقيام بما هو محق مع الزعيم السابق الذي رعى مسيرته العسكريه.
ووفَّى طنطاوي بوعده بإجراء الانتخابات، و حين خسر مرشحه المفضل رئيس الوزراء السابق أحمد شفيق بفارق ضئيل أمام محمد مرسي من جماعة الاخوان المسلمين سلم بالنتيجة.
لقد حاولت الولايات المتحده طوال العملية الانتقالية الحساسة السير على حبل مشدود معززة قيمنا الديمقراطية ومصالحنا الاستراتيجية من دون الانحياز إلى مرشحين أو فصائل معينة أو دعمهم. وعلى الرغم من جهدنا لأداء دور محايد وبناء، نظر كثر من المصريين إلى أمريكا مرتابين.
اتهمنا أنصار جماعة الإخوان المسلمين بأننا دعمنا نظام مبارك، واشتبهوا في أننا سنتواطأ مع الجيش لمنعهم من تسلم السلطة. خشي معارضوهم احتمال حكم الإسلاميين وزعموا أن الولايات المتحده تآمرت مع الإخوان المسلمين لطرد مبارك. لم أفهم كيف نتهم بمساعدة الإخوان المسلمين وإفشالهم في آن. لكن المنطق يعجز عن اعتراض نظرية المؤامرة الجيدة.
وحين عدت إلى مصر في يوليو 2012م، وجدت شوارع القاهرة تغلي مجددا بالاحتجاجات، لكنها لم تكن هذه المره موجهة ضد الحكومة بل ضدي. تجمعت الحشود امام الفندق الذى أقيم فيه، وعندما سلك موكبي مدخلا جانبيا للوصول إلى المرآب، طرق الناس على سياراتنا، لم تفعل الشرطة المصرية شيئا يرجعهم، فاضطر رجال الأمن الدبلوماسي المكلفين بحمايتي إلى دفع الناس إلى الوراء بأنفسهم، وهو أمر لم يتعودوا القيام به.
وفي غرفتي في الطبقات العليا سمعت الضجيج والهتافات الغاضبة المناهضة لأمريكا وأمضي فريق عملي وموظفو الأمن ليلة مضطربة، مستعدين لإجلاء من في الفندق إذا لزم الأمر.
وعلى الرغم من التحذيرات من مزيد من الاحتجاجات في الإسكندرية، أصررت على التمسك بجدول مواعيدنا وسافرت إلى هناك في اليوم التالي، لأفتتح رسميا القنصلية الأمريكية التي أعيد ترميمها. بعد الحدث و فيما غادرنا للوصول إلى سياراتنا، اضطررنا للسير في محاذاة الحشد الغاضب، وأصيبت توريا نولاند، المتحدثة باسمى الشجاعة بالطماطم المنهالة علينا ( تلقت الضربة في ظرافة) ورمى رجل حذاءه على نافذة سيارتي ونحن ننسحب للتوجه إلى المطار.
******
- كيف تعامل الأمريكان مع مخاوف الأقباط من الإخوان؟ وكيف رأوا حكم مرسي و السيسي؟
تقول هيلاري (ص 338): "التقيت في القاهرة، في اجتماعات منفصلة، مع مرسي والجنرالات ومجموعة من الأقباط المسيحيين القلقين، في السفارة الامريكيه، خشوا ما يخبئه المستقبل لهم ولبلادهم وهزني حديثهم جدا.
كانت إحدى اللحظات المؤثرة جدا من الثورة في ميدان التحرير، حين شكل المتظاهرون المسيحيون حلقة حول رفاقهم المسلمين لحمايتهم وهم يؤدون واجب الصلاة، وفعل المسلمون الأمر نفسه حين احتفل المسيحيون بالقداس، ولكن يا للاسف لم تدم روح الوحدة هذه بعد شهر علي سقوط مبارك، وأفادت تقارير واردة من مدينة قنا أن مجموعة من السلفيين قطعت أذن مدرس مسيحي وأحرقت منزله وسيارته، وتلت ذلك هجمات واعتداءات أخرى، وضاعف انتخاب مرسي من مخاوف المسيحيين.
وفي اجتماعنا في السفارة، تناول أحد المشاركين إشاعة بغيضة، اتهم مساعدتي المقربة "هوما عابدين"، وهي مسلمة، بأنها عميلة سرية للإخوان المسلمين، وقد عممت هذا الادعاء في الولايات المتحده شخصيات سياسية وإعلاميه يمينية غوغائية غير مسئولة، من ضمنها أعضاء في الكونجرس، وبات راهنا يُتناقل في القاهرة. لم أدع التعليق يمر مرور الكرام، وأوضحت له بعبارات صريحة لا لبس فيها فداحة خطئه.
وقد قلت للزعماء الإقباط في اجتماعنا في القاهرة إن الولايات المتحدة ستناصر في حزم الحرية الدينية. يجب أن يتمتع المواطنون بحق العيش والعمل والعبادة كما يشاؤون، مسلمين كانوا أم مسيحيين أم من أي خلفية دينية، يجب ألا تفرض أي جماعة أو فئة سلطتها أو إيديولوجيتها أو ديانتها على الآخرين. كانت أمريكا مستعدة للتعامل مع القادة الذين يختارهم الشعب المصري، ولكن ستستند مشاركتنا مع هؤلاء القادة إلى التزامهم حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية.
و أثبتت الأشهر و الأعوام التي تلت، لسوء الحظ، أن لمخاوفي من الصعوبات التي تواجه التحولات الديمقراطية أسسها، وطدت جماعة الإخوان المسلمين سلطاتها، لكنها فشلت في الحكم بطريقة شفافة أو شاملة. تصادم الرئيس مرسي كثيرا مع القضاء، وسعى إلى تهميش خصومه السياسيين بدلا من بناء توافق وطني واسع، ولم يقم بما هو فاعل لتحسين الاقتصاد، وسمح باضطهاد الأقليات، بما يشمل المسيحيين الاقباط، ولا يزال ذلك مستمرا، لكنه فاجأ بعض المشككين بالإبقاء على معاهدة السلام مع اسرائيل، ومساعدتي على التفاوض علي وقف لإطلاق النار في غزة نوفمبر 2012.
وواجهت الولايات المتحدة مره أخرى المعضلة الكلاسيكية: هل نتعامل مع زعيم نختلف معه على أمور كثيرة في سبيل تقدم مصالحنا الأمنية الأساسية؟ عدنا نسير على السلك العالي، محاولين تحقيق التوازن من دون أسئلة سهلة وخيارات جيدة.
وفي يوليو 2013، عاد ملايين المصريين إلى الاحتجاج في الشوارع ضد تجاوزات حكومة مرسي، فتدخل الجيش للمرة الثانية بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، خليفة طنطاوي، فخلع مرسي عن الحكم وبدأ حملة عنيفة ضد الإخوان المسلمين.
ولم تبد آفاق الديمقراطية المصرية مشرقة عام 2014، ترشح السيسي إلى الرئاسة، وكانت المعارضة له رمزية، وبدا أنه يتبع النمط الكلاسيكي للقادة الشرق أوسطيين الأقوياء. تعب المصريون من الفوضى وتمنوا العودة إلى الاستقرار، ولكن ليس هناك سبب وجيه للاعتقاد أن إعادة الحكم العسكري ستدوم طويلا على ما حدث في عهد مبارك. كي يحدث ذلك يجب أن يشمل مختلف الأطراف السياسيين ويستجيب لمتطلبات الشعب ويكون ديمقراطيا أكثر.
في النهاية، يكمن الاختبار لمصر وغيرها من الدول في الشرق الأوسط في قدرتها على بناء مؤسسات ديمقراطية ذات صدقية، تحترم حقوق كل إنسان و توفر الأمن والاستقرار في مواجهة العداوات القديمة التي تقوم على العقيدة والعرق والاقتصاد والانقسامات الجغرافية. ليس ذلك سهلا على ما أظهر التاريخ الحديث، لكن البديل من ذلك مراقبة المنطقة وهي تغرق أكثر في الرمال".
ويبدو فيما ساقته هيلاري عن حكم الرئيس مرسي تحاملا كبيرا، إذ اعتمدت الروايات "الليبرالية" وكلام الخصوم السياسيين في إثبات ما اعتبرته "فشلا" للرئيس مرسي، دون أن تتبين الحقائق الموضوعية على الأرض.
******
- كيف حاولت هيلاري اختبار قدرة مرسي على تحقيق الأمن في سيناء؟ وما دلالة "مذبحة الحدود"؟
في الفصل العشرين المعنون بـ"غزة: خطة لوقف إطلاق النار"، قالت هيلاري كلينتون (ص 458 وما بعدها): "قلبت ثورات الربيع العربي موازين اللعبه في الشرق الاوسط، ووجدت حماس نفسها في قلب مشهد مغاير.
مارس راعيها التقليدي الدكتاتور العلوي بشار الأسد قمعا وحشيا على الغالبية السنية في سوريا، فتخلت المنظمة السنية حماس عن مقرها الرئيس في دمشق.
وتزامنا تبوأ السلطة أحد الأحزاب الإسلامية السنية من ذوي العلاقات الوثيقة مع حماس، الاخوان المسلمون، في مرحلة ما بعد الثورة في مصر، الواقعة على حدود غزة.
كان الأمر بالنسبة إلى حماس بمنزلة باب يفتح في مقابل آخر يوصد، ومع تزايد التعقيدات وجدت نفسها في منافسة متنامية في الداخل الفلسطيني مع مجموعات أخرى متطرفة، ولا سيما منها حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين التي تسعى إلى محاربة إسرائيل من دون أن تتحمل مسؤولية فرض سيطرتها على غزة أو تحقيق نتائج للشعب.
مع فرض إسرائيل حصارا بحريا على غزة وسيطرة محكمة علي حدودها الشمالية والشرقية لم تجد حماس منفذا لإمداداتها إلا عبر الحدود الجنوبية الضيقة مع شبه جزيرة سيناء في مصر، حيث كانت عمليات التهريب مرفوضة على وجه حق خلال عهد مبارك، الذي بنى علاقات جيدة مع إسرائيل، لكن حماس نجحت في حفر الأنفاق تحت الحدود وصولا إلى الأراضي المصرية. وبعد سقوط مبارك ووصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر أصبح اجتياز حدود غزة أسهل من ذي قبل.
سألت الرئيس المصري الجديد محمد مرسي خلال أحد اجتماعاتنا الأولى: ما الذي ستقومون به لمنع القاعدة ومتطرفين آخرين من زعزعه استقرار مصر خصوصا سيناء؟ فأجاب "لم قد يقدمون على أمر كهذا؟ لدينا حكومة إسلامية الآن".
أتت مسألة توقعه تضامنا مع الإرهابيين إما من باب السذاجة، وإما من باب الشر الصادم، وعزوت السبب إلي "أنكم لن تتطهروا كفاية.. أيا تكن مواقفكم فسيستهدفونكم ومن واجبكم حماية بلادكم و حكومتكم"، أما هو فلم يعر الأمر أي أهمية".
بحلول أغسطس 2012، فرضت الأوضاع في سيناء تهديدا لا يمكن التغاضي عنه، شنت مجموعة مؤلفة من قرابة 35 مسلحا، مساء ذات أحد، هجوما على ثكنة للجيش المصري في موقع متقدم قرب الحدود مع إسرائيل متسببة بمقتل ستة عشر عسكريا كانوا جالسين إلى مائدة العشاء، ثم أقدم المتطرفون على سرقة مركبة مدرعة وشاحنة دججوها بالمتفجرات وتوجهوا بها إلى إسرائيل. انفجرت الشاحنة لدي عبورهم السياج الحدودي عبر كيرم شالوم (كرم أبو سالم)، بينما تولى الطيران الإسرائيلي تدمير المركبة المدرعة. لم تدم المواجهة أكثر من ١٥ دقيقة إلا أنها كانت كافية لإحداث حال من الصدمة في مصر وإسرائيل على السواء.
بعد الماساة وبمؤازرة الولايات المتحده كثفت مصر جهودها لمحاربة المسلحين في سيناء، لاجئة أيضا إلى القوة الجوية لكن المنطقة بقيت تعاني حالا من عدم الاستقرار الشديد".
كلام هيلاري ينم عن "غيظ مكتوم" من الرئيس مرسي، عندما قابل سؤالها عن دور مصر في حماية أمن سيناء - لصالح إسرائيل بالطبع- بإجابة ذكية قرأتها هي على أنها "سذاجة" أو "لا مبالاة"، في حين أن الرئيس أراد أن يوصل لها رسالة مؤداها "وما شأنكم أنتم؟"، لكنها فهمت إجابته على ذلك النحو.
في الوقت نفسه لا يمكن فصل المذبحة البشعة للجنود المصريين على الحدود مع الأراضي المحتلة عن هذا السياق: هل كانت اختبارا لمرسي ومحاولة دنيئة لإحراجه باتفاق ما بين عسكر مصر والصهاينة والأمريكان؟ الأمر ما زال لغزا، لأن السيسي الذي تحوم حوله شبهات بأنه كان وراء تلك المذبحة، لم يجر تحقيقا أو يعلن نتائج لتحقيق حتى الآن.
******
- قلق أمريكي إسرائيلي من رد فعل "مصر الثورة" على حرب غزة 2012 ومحاولة التوسط لدى "مرسي"
أثناء حكم الرئيس مرسي، وفي الرابع عشر من نوفمبر 2012، شنت إسرائيل حرباً ثانية على قطاع غزة، أسمتها “عامود السحاب”، فيما أسمتها حركة حماس “حجارة السجيل"، واستمرت لمدة 8 أيام، وتدخلت هيلاري كلينتون لدى الجانب المصري للتوسط لإنهاء الحرب.
تقول هيلاري في مذكراتها (ص 463 وما بعدها): "اتصلت بوزير الخارجية المصرية محمد عمرو؛ لأرى هل من امر تستطيع مصر فعله لتخفيف حده التوتر، فأجاب "لا يمكننا قبول ذلك"، ويقصد بكلامه الضربات الجوية الإسرائيلية. كنت آمل في أن تبقى مصر وسيطا مهما وتمثل صوت السلام كما تعودناها، بعد ما تسلم الرئاسة فيها قائد الإخوان المسلمين مرسي، ليحل محل مبارك، احتكمت إلى مراعاة عمرو مكانة مصر وقلت له: "أعتقد أن دوركم في هذه القضية مهم جدا، وأناشدكم أن تبذلوا ما في وسعكم للتخفيف من حدة الظروف، مشددة على ضرورة التحدث إلى حماس، ودعوتها إلى وقف القصف على إسرائيل.
وفيما أفعال الأخيرة لم تأت إلا في إطار الدفاع عن النفس، بحسب قولي. أضفت "ليس في استطاعة أي دولة على وجه الأرض أن تجلس مكتوفة وتتفرج على الصواريخ تدك شعبها". وافق عمرو على المحاولة وقال: "آمل في أن نتمكن كلانا من فعل شيء لوقف هذا الجنون، نحن في حاجة إلى توطيد جهودنا الثنائية".
بقيت والرئيس أوباما على اتصال حثيث خلال جولتي التي استكملتها من بيرث إلى أديلايد (عاصمة ولاية جنوب أستراليا) فسنغافورة، وعملنا على تنسيق الضغوط التي نمارسها علي نظرائنا في الشرق الأوسط، فاعتمد الرئيس على مرسي وأجرى مشاورات مع رئيسي الوزراء وأردوغان، مناشدا جميع الأطراف الدفع في اتجاه وقف إطلاق النار، وخلال تبادلنا وجهات النظر تساءلنا: هل يؤتي التدخل المباشر ثمارا؟ وهل من الأفضل أن أسافر إلى الشرق الأوسط لمحاولة إنهاء العنف؟
لم نظن كلانا أن توجهي إلى هناك هو السلوك الأكثر حكمة، فأولا كان علينا التوجه إلى آسيا في رحلة عمل جدية. لم ينقض الأمر على ذلك وحسب، إذ أبدى الرئيس حذرا مفهوما حيال أدائنا دور الوسيط المباشر في نزاع فوضوي آخر في الشرق الأوسط، فإذا توسطنا لوقف إطلاق النار وباءت محاولتنا بالفشل، وهو الأمر المرجح فسيقضي ذلك على هيبة أمريكا و صديقتها في المنطقة (إسرائيل).
وكان ثمة احتمال كبير أن يقوض تدخل الولايات المتحده المباشر عملية السلام، ويزيد من حدة النزاع ويدفع بالطرفين نحو التشدد في مواقفهما التفاوضية. لم أرد والرئيس حدوث هذا البتة فيما أمريكا ايضا كانت في غنى عنه.
قال الرئيس إنه سيتصل بكل من مرسى وبيبي من الطائرة الرئاسية في طريق عودته إلى واشنطن في محاولة منه لإحداث بعض التقدم قبل أن تطأ قدماي المنطقة.
كان عليك أن تاخذ في الحسبان كيف أن النزاع في سوريا كان يخلق شرخا بين حماس السنية من جهة و رعاتها الشيعة في دمشق وطهران منذ زمن من جهة أخرى، تزامنا مع نهضة الإخوان المسلمين السنة في القاهرة، واستمرار الحرب الأهلية السورية.. ماذا عن عدم الاستقرار المتفاقم في سيناء والضغط الذي كان يولده على الحكومه المصرية الجديدة؟
كان نتنياهو يتعرض لضغوط من أجل الغزو، فيما استطلاعات الرأي في إسرائيل تحبذ بقوة هذه الخطوة خصوصا قاعدة بيبى الليكودية، لكن قادة الجيش الإسرائيلي كانوا يحذرون من أعداد الخسائر البشرية العالية، فضلا عن خوف نتنياهو من العواقب التي ستترتب على المنطقة.
كيف سيكون رد فعل مصر؟ كان نتنياهو يعلم أيضا أن الجيش حقق معظم أهدافه خلال الساعات القليلة الأولى من الغارات الجوية المتواصلة... كان مبارك رحل ولم يول الإسرائيليون أي ثقة بحكومة الإخوان المسلمين في القاهره، مما عزز أهميه دور الولايات المتحدة. وقد أبلغني أحد المسؤولين الإسرائيليين أن هذا القرار هو الأصعب بالنسبة إلى نتنياهو منذ ترؤسه الحكومة.
أخبرتهم أنني متوجهة في اليوم التالي إلى القاهرة وعازمة على طرح وثيقة أقدمها إلى مرسي، تكون أساسا للمفاوضات النهائية. فكرت في أن الأمر الأهم يقتضي ورود نقاط يمكن للإسرائيليين تقديم تنازلات في شأنها إذا أجبروا، فيشعر مرسي أنه توصل إلى اتفاق جيد من أجل الفلسطينيين، صلنا وجلنا من دون أن نجد تركيبة مقدرا لها النجاح.
لوحظ في كلام هيلاري هنا أن الإدارة الأمريكية كانت أمام اختبار حقيقي في كيفية التعامل مع الرئاسة المنتخبة في مصر بعد ثورة يناير 2011، بشأن حرب غزة، وكيف حرصت على التوسط لدى الرئيس مرسي بما يمكن أن يرضيه لتلبية مطالب الفلسطينيين، بعكس ما كان يحدث أيام مبارك.
******
- هيلاري تعترف: مرسي رجل دولة نجح في وقف الحرب على غزة وإعادة مكانة مصر التاريخية
في (ص 501 وما بعدها)، تقول هيلاري كلينتون: "وصلت بعد ظهر 21 من نوفمبر إلى القصر الرئاسي في القاهرة، حيث التقيت مبارك مرات سابقا. كان المبني والعاملون فيه على حالهم، ولكن مع تسلم الإخوان المسلمين الآن زمام السلطة. إلى هنا كان مرسي داعما اتفاق كامب ديفيد من أجل السلام مع إسرائيل، الذي شكل الركن الأساسي لاستقرار المنطقة طوال عقود، ولكن إلى متى سيستمر الوضع كذلك في حال إقدام إسرائيل على اجتياح غزة مجددا؟ هل يسعى مرسي إلى تأكيد دور مصر التاريخي كوسيط وصانع سلام، ويفرض نفسه رجل دولة علي المستوى العالمي؟ أم ينتقل إلى استغلال الغضب الشعبي وينصب نفسه الرجل الوحيد في الشرق الأوسط الذي استطاع أن يقف في وجه إسرائيل؟ كنا على وشك اختباره.
كان مرسي سياسيا استثنائيا، قذفه التاريخ من الغرفة الخلفية إلى كرسي الرئاسة، منكبا بطرائق كثيرة علي تعلم سبل الحكم من النقطة صفر، فيما الأوضاع متأزمة جدا. كان واضحا عليه عشقه للسلطة التي يوفرها له منصبه الجديد، متقدما على وقع السياسة (إلى أن استنفدته لاحقا). ارتحت إلى اهتمامه لأن يكون صانع صفقات أكثر من ميله إلى الغوغائية، التقينا في مكتبه مع فريقه الاستشاري المصغر وشرعنا في درس الوثيقة التي أخذتها من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بندا تلو الآخر.
شجعت مرسي على التفكير في دور مصر على الصعيدين الاستراتيجي والتاريخي في المنطقة. أتقن الإنجليزية، هوالحائز على شهادة الدكتوراة في العلوم الهندسية في جامعة جنوب كاليفورنيا، عام 1982، ودرس في جامعة ولاية كاليفورنيا، نورثريدج حتى العام 1985، دقق في كل جمله واردة في النص، سائلا: " ما يعني ذلك؟ هل هي ترجمة صحيحة؟ في مرحلة ما صاح " لا أقبل هذا"، فأجبته: "لكنك طرحته في إحدى المسودات السابقه"، ورد " حقا؟ حسنا"، وبهذا أبدى موافقته، حتى إنه ناقض وزير الخارجية عمرو في مرحلة ما في المفاوضات وقدم تنازلا رئيسا.
كان الاقتراح مقتضبا ومباشرا بالاتفاق على تحديد "الساعة صفر"، توقف إسرائيل كل أعمالها الحربية في غزة، برا وبحرا وجوا، وتوقف الفصائل الفلسطينية عمليات إطلاق الصواريخ والهجومات الأخرى على طول الحدود، على أن تتمتع مصر بدور الضامن والمراقب، إلا أن الجزء الشائك كان متعلقا بالذي سيحدث لاحقا.
شدد مرسى على بعض النقاط، وراجعنا معا اللائحة مرات، وأفضت في النهاية إلى ما يلي: " فتح المعابر وتسهيل حركة مرور السكان ونقل السلع، والتخفيف من تقييد حرية تنقل المواطنين واستهدافهم في المناطق الحدودية، والتعامل مع هذه الإجراءات التطبيقية خلال الساعات الأربع والعشرين التي تلي وقف إطلاق النار".
كان الفلسطينيون على اتصال هاتفي بقادة حماس وفصائل فلسطينية متطرفة أخرى في غزة، طوال مدة المفاوضات، من ضمنهم عدد من أولئك الجالسين في مكاتب الخدمات الاستخبارية المصرية في أنحاء المدينة.
كان فريق مرسي، الجديد على الحكم، حذر مع الفلسطينيين ولم يكن مرتاحا إلى الإقدام علي لي أذرعهم للحصول علي اتفاق. استمرارنا في تذكير رجال الإخوان المسلمين بأنهم يمثلون الآن قوة عظمى في المنطقة، وأن مسؤولية الخروج بنتيجة كانت ملقاة على عاتقهم.
كنت أفيد الرئيس أوباما دوما بآخر التطورات، وتحدثت إلى نتنياهو مرات. لم يكن ومرسى ليتكلما معا مباشرة، فكنت الوسيط في لعبة خطرة جدا من المفاوضات الهاتفية، فيما جايك (جايك سوليفان مدير مكتب وزيرة الخارجية)، وسفيرتنا الرائعة في القاهرة آن باترسون كانا يتعمقان في بعض التفاصيل الأكثر تعقيدا مع مستشاري مرسي.
كانت لدى نتنياهو النية أن يكسب الولايات المتحدة والمصريين لمساعدته على إيقاف شحنات الأسلحة الجديدة الوافدة على غزة. لم يكن يرغب في إيقاف الغارات الجوية وإذا به يجد نفسه مجددا في موقف لا يحسد عليه، سيدوم سنة أو سنتين.
عندما ضغطت على مرسي في هذه النقطة اتفقنا على أنها تصب في مصلحة مصر الأمنية أيضا، لكنه أراد في المقابل التزاما لإعادة فتح حدود غزة، وبالتالي إدخال المساعدات الإنسانية وسلع أخرى في أقرب وقت ممكن، إضافة إلى توفير حركة تنقل أوسع لزوارق الصيد الفلسطينية على الساحل. أظهر نتنياهو استعدادا لإبداء مرونة في هذه البنود، إذا حصل على ضمانات بإيقاف تدفق الأسلحه والصواريخ، ومع كل منعطف في المحادثات كنا نقترب أكثر فأكثر من التفاهم.
في النهاية أصبح كل جزء في مكانه و أجري الاتصال وحصلنا على الضوء الأخضر من القدس وواشنطن. جثا مستشار الأمن القومي لدى مرسي، عصام الحداد، على ركبتيه (سجد) شاكرا الله. توجهت ووزير الخارجية عمرو إلى مؤتمر صحفي حاشد، وأعلنا إتمام الاتفاق على وقف إطلاق النار، مما أثار حالا من الهرج والمرج، وتفجرا للمشاعر. تحدث عمرو عن "مسؤولية مصر التاريخية تجاه القضية الفلسطينيه" و" حرصها على وقف حمام الدماء" والحفاظ على الاستقرار في المنطقة. لن تبدو حكومة الإخوان المسلمين الجديدة صادقة مجددا كما بدت ذاك اليوم.
شكرت للرئيس مرسي وساطته، مشيدة بالاتفاق، و محذرة في الوقت عينه من أن "لا بديل من السلام العادل والدائم" الذي "يزيد الأمن والكرامة وتطلعات الفلسطينيين والإسرائيليين الشرعية". إذن كان ينقص الكثير بعد لإتمام عملنا. تعهدت أن "تعمل الولايات المتحدة في الأيام المقبلة، مع شركائها في كل أنحاء المنطقة، على تعزيز هذا التطور، و تحسين أوضاع شعب غزة، وتوفير الأمن لشعب إسرائيل".
وبينما سار موكبنا في شوارع القاهرة، في تلك الليلة، تساءلت إلى متى تستمر هذه الهدنة، أو هل تطبق حتى؟
بدا لي أن النتيجتين الاستراتيجيتين الأهم في هذا النزاع كانتا بشرى سارة لإسرائيل، أولا: بقيت مصر شريكا في عملية السلام، أقله حتى الآن، الأمر الذي شككنا فيه جديا منذ سقوط مبارك. وتمثلت النتيجة الثانية بنجاح القبة الحديدية في إسقاط الصواريخ المعادية، مما قوي "التفوق العسكري النوعي" لإسرائيل وأبطل تهديدات حماس العسكرية".
في هذا الجزء الأخير حاولت "هيلاري" أن تظهر الرئيس مرسي، يرحمه الله، على أنه "عاشق للسلطة"، قليل الخبرة السياسية، مرتبك، بعكس الواقع تماما، لكنها أنصفته في نقاط أخرى كثيرة منها إتقانه للغة الإنجليزية، بعكس ما ردده خصومه، واعترافها في ثنايا كلامها بأنه رجل سياسة ودولة، حيث كان واقعيا في التعامل مع أزمة حرب غزة وحاول أن يجني أكبر مكاسب للفلسطينيين بعد وقف العدوان، كما اعترفت ضمنا بأن هذا الموقف من مرسي يضع مصر على طريق استعادة مكانتها ودورها التاريخي في المنطقة.
كما وصفت الإخوان بأنهم "قوة عظمى في المنطقة"، وهي تذكرهم بمسئوليتهم تجاه إنجاز وقف الحرب في غزة، لكن لغتها العامة في هذا الجزء من المذكرات تشي بأنها وفريقها الدبلوماسي كانوا يتعاملون مع الرئيس مرسي والإخوان بمنطق الكبير الخبير الذي يخدع طفلا صغيرا بكلام معسول أو لعبة جميلة لإيقاعه في فخ ما، بما يكشف أن معرفة الإدارة الأمريكية عن الإخوان وطريقة تفكيرهم كانت سطحية، وما زالت.
بقيت الحقيقة المؤكدة أن الإدارة الأمريكية- بمنطق هيلاري- تتعامل مع الكيان الصهيوني كما لو كان ولاية أمريكية وتتحدث وتتفاوض نيابة عنه بكل الصلاحيات، وهو ما يعني- بكل بساطة- أنه لا يمكن توقع أن تكون الإدارة الأمريكية، ديموقراطية كانت أم جمهورية، منصفة أبدا للقضايا العربية أو القضية الفلسطينية، وأن انحيازها التام للكيان الصهيوني يحكم سياساتها التفاوضية مع الحكام العرب.
******
- خاتمة:
إجمالا يمكن القول بأن مذكرات هيلاري كلينتون لم تكن منصفة فيما يتعلق بالإخوان والرئيس مرسي على وجه التحديد، إذ بدا منطقها متشككا طول الوقت، مع إظهار انحيازها، والإدارة الأمريكية التي تعبر عنها بالطبع، للقوى المناوئة للإخوان وللكيان الصهيوني على طول الخط، وفي هذا أبلغ رد على من يشكك ويردد من قوى "الثورات المضادة" في أن إدارة أوباما أتت بالإخوان لحكم مصر ودعمتهم للوصول إلى السلطة.
----------------
المصادر:
- هيلاري دِيان رودهام كلينتون (2014)، "خيارات صعبة"، ترجمة ميراي يونس (2015)، ط 1 عربي، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.
- "سى إن إن" عربي (2009)، النص الكامل لخطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالقاهرة، https://cnn.it/37jx6VP، تاريخ التصفح 19 أكتوبر 2020م.
- "عربي 21 "، بلال الخالدي (2018)، تحليل لأهم ما كشفتة NYT عن موقف أوباما من انقلاب السيسي، https://bit.ly/31ofxQB، تاريخ التصفح 20 أكتوبر 2020م
- "ويكيبيديا الإخوان المسلمين" (2014)، الإخوان والانتخابات الأخيرة فى عهد مبارك 2010، https://bit.ly/3kdhaIp، تصفح 21 أكتوبر 2020م.
- "الرسالة" (2011)، كلينتون تحذر قادة العرب "التطرف يملأ الفراغ"، https://bit.ly/35lSWFD، تصفح 21 أكتوبر 2020م.