الإعلام الذكي والتنوع الثقافي: الهوية في مواجهة الخوارزمية
الاثنين - 3 نوفمبر 2025
- الإعلام الذكي لم يعد مجرد أداة تقنية بل تحول إلى فاعل ثقافي مؤثر يعيد تشكيل الهويات ويؤثر في التنوع الثقافي
 - تتزايد فرص الإعلام الذكي في تعزيز التعبير الثقافي والانفتاح لكنه يطرح تحديات عميقة تتعلق بالتحيزات الخوارزمية
 - بناء إعلام ذكي يعزز الهوية ويحمي التنوع الثقافي هو مهمة جماعية تتطلب تكامل الجهود بين الحكومات والمجتمعات
 
د. محمد يوسف العركي
الخبير الثقافي والباحث في استراتيجيات المعرفة
المقدمة:
في ظل عالم تتسارع فيه التحولات الرقمية، لم يعد الإعلام مجرد وسيط ناقل للمعلومة، بل أصبح فاعالا ثقافايا يعيد تشكيل الهويات ويؤثر في التنوع الثقافي.
ومع صعود الإعلام الذكي، القائم على الخوارزميات والذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات الرقمية الحديثة، تبرز أسئلة جوهرية حول مستقبل الهوية بأنواعها المختلفة في ظل التخصيص الرقمي، والتحيزات الخوارزمية
وتوحيد المحتوى العالمي ومن ابرزها يأتي سؤال حتمية المواجهة، وما هي الفرص التي يمكن الاستفادة منها من خلال التطورات الرقمية المتسارعة.
تتناول هذه الورقة العلاقة بين الإعلام الذكي والهوية، من خلال تحليل أدوات الذكاء
الاصطناعي وما تحدثه من أثر في صناعة المحتوى، واستكشاف أثر الرقمنة على التعبير الثقافي، وتفكيك دور الخوارزميات كفاعل ثقافي جديد.
كما تسلط الضوء على التحديات التي تواجه التنوع الثقافي، وتناقش كذلك فرص توظيف التقنية في حفظ التراث وإبراز الخصوصيات المحلية.
وتنتهي الورقة باستعراض السياسات الثقافية والإعلامية، والمواثيق الدولية ذات الصلة، لتقديم رؤية متكاملة نحو إعلام ذكي يعزز الهوية ويصون التنوع، بدلا من أن يذ وبه في فضاء رقمي موحد.
ونأمل من خلال هذه الورقة والأوراق الأخرى أن نقدم رؤية متقدمة ذات جانب استشرافي مستند على العلمية والخبرات العملية لتخرج هذه القمة بتوصيات ذات أثر ملموس ومباشر بإذن لله تعالى على واقع الاعلام الذكي والتمكين الشبابي.
المحور الأول الإعلام الذكي – المفهوم والتحولات:
•أولا: تعريف الإعلام الذكي وتمييزه عن الإعلام التقليدي:
تعريف الاعلام: هناك عدة تعريفات للإعلام وذلك باختلاف التوجهات واختلاف الزاوية التي ينظر بها أصحابها الى هذا العلم الواسع، لكن لعل من أشهر التعريفات المتداولة هو تعريف العالم الألماني (أوتوجروف)، حيث قال: "هو التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير وروحها وميولها واتجاهاتها الوقت نفسه".
ومع التطورات التقنية المتلاحقة برز نوع جديد من رحم مفهوم الاعلام التقليدي وهو ما يعرف بالإعلام الذكي، أو أحيانا يسمى الاعلام الرقمي، لذلك لابد لنا أن نشير للفرق بين هذين النوعين:
أ. الإعلام التقليدي: هو الاعلام الذي يعتمد على وسائل مثل الصحف الورقية، الإذاعة، والتلفزيون، ويتميز بالموثوقية والرقابة المهنية، لكنه يفتقر إلى التفاعل اللحظي والتخصيص. والإعلام التقليدي غالبًا ما يكون أحادي الاتجاه، حيث يُنتج المحتوى ويُرسل إلى الجمهور دون فرصة للتفاعل أو الرد الفوري.
ب. الإعلام الذكي: هو نمط حديث من الإعلام يعتمد على التقنيات الرقمية المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، تعلم الآلة، وتحليل البيانات الضخمة، بهدف تقديم محتوى إعلامي مخصص، تفاعلي، وسريع الاستجابة لاحتياجات الجمهور.
ويتميز الإعلام الذكي بقدرته على التكيف مع سلوك المستخدمين وتقديم محتوى يتماشى مع اهتماماتهم الفردية، مما يجعله أكثر تأثيرًا وانتشاراً (1)
ولعل المتابع للساحة الإعلامية عموما في الوقت الحالي يجد أن هناك شيئا فريدااقد حدث، وهو أن الإعلام التقليدي قد سار في مجاراة الاعلام الذكي من حيث نوعية البرامج التي تُقدم، مثل البودكاست وغيرها مما سيأتي ذكره لاحقا بالتفصيل إن شاء الله.
•ثانيا: أدوات الذكاء الاصطناعي في الإعلام (من الخوارزميات إلى التوصيات التلقائية):
أ. تعريف الذكاء الاصطناعي (AI):
هو فرع من علوم الحاسوب يهدف إلى تمكين الآلات من محاكاة الذكاء البشري، مثل التفكير، التعلم، اتخاذ القرار، وحل المشكلات. ويستخدم الذكاء الاصطناعي الخوارزميات لتحليل البيانات، التعرف على الأنماط، واتخاذ قرارات بناءً على المعلومات المتاحة (2).
ب.أدواته في الاعلام:
تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي في الإعلام الذكي لتحسين تجربة المستخدم، وتطوير المحتوى، وزيادة كفاءة الإنتاج الإعلامي، ومن أبرز هذه الأدوات:
1. الخوارزميات التنبؤية: تُستخدم لتحليل سلوك المستخدمين وتقديم محتوى يتناسب مع اهتماماتهم. على سبيل المثال، تعتمد منصات مثل News Google على تحليل ما يقرؤه المستخدم لتقديم أخبار مشابهة.
2. التوصيات التلقائية: كما في منصات مثل YouTube وNetflix، حيث يتم اقتراح محتوى بناءً على التفاعل السابق، مما يزيد من مدة بقاء المستخدم على المنصة.
3. الصحافة الآلية: يُستخدم الذكاء الاصطناعي لكتابة تقارير إخبارية تلقائيًا، خاصة في المجالات التي تعتمد على البيانات مثل الرياضة والاقتصاد. مثال على ذلك روبوت "Heliograf" من صحيفة واشنطن بوست.
4. تحليل المشاعر: تُستخدم هذه التقنية لفهم ردود فعل الجمهور على المحتوى المنشور، مما يساعد في تعديل الرسائل الإعلامية لتكون أكثر تأثيرًا.
ثالثا: كيف يعيد الإعلام الذكي تشكيل العلاقة بين المنتج والمتلقي؟
مما لا شك فيه أن الإعلام الذكي أحدث تحولًا جذريًا في العلاقة بين المُنتج الإعلامي والمتلقي، حيث لم يعد الجمهور مجرد متلقٍ سلبي، بل أصبح مشاركًا فاعلًا في صناعة المحتوى وتوجيهه. من أبرز مظاهر هذا التحول يمكننا أن نشير إلى (3):
1. التفاعل اللحظي: يمكن للجمهور الآن التعليق، المشاركة، والتأثير في صياغة المحتوى، مما يجعل العملية الإعلامية أكثر ديمقراطية وتشاركية.
2. التخصيص الفردي: كل مستخدم يتلقى محتوى مختلفًا حسب اهتماماته وسلوكياته، مما يزيد من فعالية الرسائل الإعلامية ويعزز الولاء للمنصة.
3. الشفافية والتحليل اللحظي: يمكن للمنتج الإعلامي قياس ردود الفعل فورًا عبر أدوات التحليل، مما يسمح بتعديل المحتوى أو استراتيجيات النشر بشكل فوري.
4. التحول إلى نموذج تشاركي: أصبح الجمهور يشارك في إنتاج المحتوى عبر وسائل مثل البودكاست، الفيديوهات القصيرة، والتدوين، مما يوسع مفهوم الإعلام ليشمل المواطن الصحفي.
المحور الثاني: الهوية الثقافية في العصر الرقمي:
أولا: مكونات الهوية الثقافية في المجتمعات المعاصرة:
أ. تعريف الهوية: الهوية هي مجموعة من الخصائص والسمات التي تميز الفرد أو الجماعة عن غيرهم، وتشكل جوهر الذات الإنسانية، وتُعبّر عن الانتماء الثقافي والاجتماعي والنفسي. ويُنظر إلى الهوية على أنها بصمة الإنسان التي تجعله مختلفًا عن الآخرين، وتشمل عناصر مثل اللغة، الدين، الجنس، العرق، والانتماء الوطني والاجتماعي.
ب. أنواع الهوية: بناء على نمط المجتمعات وتشكلاتها فهناك عدة أنواع يمكن الإشارة اليها:
1. الهوية الفردية: تعكس الخصائص الشخصية التي تميز الفرد، مثل الاسم، تاريخ الميلاد، المعتقدات، والاهتمامات.
2. الهوية الاجتماعية: ترتبط بالدور الذي يلعبه الفرد داخل المجتمع، مثل كونه طالبًا، موظفًا، أو عضوًا في جماعة معينة، وتُبنى على التفاعل الاجتماعي.
3. الهوية الثقافية: تعبر عن الانتماء إلى ثقافة معينة، وتشمل اللغة، العادات، التقاليد، والفنون.
4. الهوية الوطنية: ترتبط بالانتماء إلى دولة أو وطن، وتشمل الرموز الوطنية، التاريخ، والانتماء السياسي.
5. الهوية الدينية: تعكس الانتماء إلى معتقد ديني معين، وتؤثر في السلوك والقيم الشخصية.
ومن الأهمية بمكان ان نشير الى أن الهوية ليست ثابتة، بل تتطور وتتغير عبر الزمن، بتأثير العوامل الاجتماعية والنفسية والثقافية (4).
ج. إشارات حول مفهوم الهوية الثقافية:
وإذا خصصنا الحديث هنا عن الهوية الثقافية من حيث المفهوم فيمكننا القول إنها تعني التناسق بين العقل والهويّة عن طريق نبذ التعصّب والتطرّف العرقي والطائفي في شتّى صوره وأشكاله، وتعرّف أيضاً على أنها مركبٌ متجانسٌ من التصورات والذكريات والرموز والقيم والإبداعات والتعبيرات والتطلعات لشخصٍ ما أو مجموعةٍ ما، وهذه المجموعة تشكّل أمةً بهويتها وحضارتها التي تختلف من مكانٍ لآخر في العالم.
والهويّة الثقافيّة هي المعبّر الأساسي عن الخصوصيّة التاريخيّة لمجموعةٍ ما أو أمةٍ ما، إضافةً إلى نظرة هذه المجموعة أو الأمة إلى الكون والموت والحياة، إضافةً إلى نظرتها للإنسان ومهامه وحدوده وقدراته، والمسموح له والممنوع عنه.
إذاً فإنّ الهويّة الثقافيّة عبارة عن عددٍ من التراكمات الثقافيّة والمعرفيّة، سواء كانت تلك المعارف تأتي انطلاقاً من تقاليد وعادات في العائلة والمجتمع المحيط به، عاشها الفرد منذ لحظة ميلاده فكانت الأساس في تكوينه طيلة أيام حياته، وأصبحت جزءاً من طبيعته، أو انطلاقاً من الدين.
وهي تمثل كذلك الوعي الجمعي الذي يربط الفرد بجماعته، ويمنحه شعورًا بالانتماء والتميز عن الثقافات الأخرى. وفي ذلك يقول الباحث خروبي مفيدة: "الهوية الثقافية ليست مجرد موروث، بل هي بناء اجتماعي يتشكل عبر التفاعل مع الآخر، ويتأثر بالتحولات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية" (5).
د. نتائج الهويّة الثقافيّة:
من تعريفات الهويّة الثقافيّة نستنتج أنّه يستحيل وقوعها تحت مقولة العولمة، وذلك لتعدد الثقافات حول العالم، حيث إنّها لا توجد هناك ثقافةٌ عالميةٌ واحدة، ويستحيل أن تتواجد في يومٍ من الأيّام، لكن المتواجد عددٌ من الثقافات المتعددة والمتنوّعة على مستوى الأفراد والجماعات والأمم، وتعمل كل ثقافةٍ من هذه الثقافات بصورةٍ عفويّة وتلقائيّة، أو عن طريق تدخلٍ من أصحاب هذه الثقافة بهدف الحفاظ على مقوّماتها وكيانها الخاص، ومنها ما يميل إلى الانكماش والانغلاق، ونوعٌ آخر من الثقافات يهدف إلى التوسّع والانتشار.
إذاً فإنّ الهويّة الثقافيّة تغطّي ثلاثة مستويات فرديّة وجماعيّة ووطنيّة أو قوميّة؛ بحيث يتمّ تحديد العلاقة بين هذه المستويات بنوع الآخر المواجه لها، والعلاقة بين أطراف الهويّة الثقافية وهم الأفراد والجماعات والمجتمع أو الأمّة تأخذ شكل المدّ والجزر.
فالهويّة الثقافيّة عبارة عن كيانٍ يمكن أن يتطوّر، ولا يمكن تحديدها كمُعطى نهائي؛ حيث إنّها يمكن أن تسير في اتجاه الانكماش والتقلّص أو باتجاه الانتشار، وتمتاز هذه الهويّة بغناها الناتج عن تجارب أصحابها وكمّ المعاناةِ التي مرّوا بها ونجاحاتهم وانتصاراتهم وتطلّعاتهم، إضافةً إلى احتكاكها الإيجابي أو السلبي بالهويّات الثقافيةِ الأخرى التي تتداخل معها بشكلٍ أو آخر (6).
وبالتالي تمثل الهوية في إحدى تجلياتها الكبرى مفهوم الاستدامة بمعناه العام، بحيث تؤثر وتتأثر بما حولها، سواء من الهويات الأخرى او المتغيرات الحياتية على مستوى الحضارات والأمم والشعوب وصولًا الى أدني مستوى اجتماعي ثقافي قائم.
ثانيا: أثر الرقمنة على التعبير الثقافي والرموز الثقافية:
التعبير الثقافي: هو تجسيد أو نقل للمعاني والقيم الرمزية والمضمون الثقافي من خلال أنشطة وسلع وخدمات تنتجها الأفراد والمجموعات والمجتمعات.
ويشمل ذلك أشكالًا فنية وإبداعية كالفن والموسيقى والأدب والرقص، بالإضافة إلى العادات والتقاليد والممارسات الثقافية التي تُعبّر عن الهوية والتراث(7).
أ. الأثر الإيجابي للرقمنة على التعبير الثقافي ويشمل:
1. توسيع نطاق التعبير الثقافي: الرقمنة أتاحت للأفراد والمجتمعات إمكانية التعبير عن ثقافاتهم بلغات وأساليب متعددة، عبر منصات مثل المدونات، الفيديوهات، والبودكاست، مما عزز تنوع أشكال التعبير الثقافي.
2. إتاحة الوصول إلى الثقافة للجميع: أصبح بإمكان أي شخص في أي مكان الوصول إلى محتوى
ثقافي متنوع، مما ساهم في نشر الثقافة المحلية عالمايا، وتعزيز الحوار بين الثقافات.
3. تمكين الفئات المهمشة: الرقمنة منحت الأقليات الثقافية واللغوية أدوات للتعبير عن وياتها، مما ساعد في حماية التنوع الثقافي.
4. تحفيز الإبداع والابتكار: وفرت البيئة الرقمية أدوات جديدة للفنانين والمبدعين، مثل الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز، لإنتاج أشكال جديدة من الفن والثقافة.
ب. الأثر السلبي للرقمنة على التعبير الثقافي ويشمل:
1. توحيد الثقافة (العولمة الثقافية): أدت الرقمنة إلى هيمنة ثقافات معينة (خصوصًا الغربية) على الفضاء الرقمي، مما يهدد الخصوصيات الثقافية المحلية ويؤدي إلى تآكل الهويات.
2. تفريغ الرموز الثقافية من معناها: يتم أحيانًا إعادة إنتاج الرموز الثقافية بصيغ تجارية أو ترفيهية، مما يؤدي إلى فقدان عمقها الرمزي والتاريخي.
3. السطحية وسرعة الاستهلاك: طبيعة المحتوى الرقمي السريع والمختصر قد تؤدي إلى تبسيط مفرط للثقافة، وتحويلها إلى منتج استهلاكي لا يحمل قيمًا معرفية عميقة.
4. الرقابة والخوارزميات : تتحكم الخوارزميات فيما يُعرض للمستخدم، مما قد يؤدي إلى تضييق نطاق التعبير الثقافي، وتهميش بعض الأصوات أو القضايا(8).
• ومن ذلك كله يمكننا القول إن الرقمنة تمثل سيافا ذا حدين في مجال التعبير الثقافي، فهي من جهة تعزز التنوع والابتكار والانفتاح، ومن جهة أخرى تهدد الأصالة والخصوصية الثقافية إذا لم تُدار بشكل واع.
المحور الثالث: الخوارزمية كفاعل ثقافي:
أولا: تعريف الخوارزميات وانواعها:
أ. تعريف الخوارزمية: (algorithm):
هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما، وسميت الخوارزمية بهذا الاسم نسبة إلى العالم أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي كان أول من ابتكرها في القرن التاسع الميلادي(9).
ثم تطورت في القرن العشرين مع ظهور الحواسيب لتصبح أدوات أساسية في البرمجة ومعالجة البيانات، وفي مرحلة لاحقة ظهرت خوارزميات الفرز والبحث التي شكلت أساسا لعلوم الحاسوب، ثم جاءت مرحلة البرمجة الديناميكية والخوارزميات الجشعة التي ساهمت في تحسين الأداء، ومع تطور الذكاء الاصطناعي ظهرت خوارزميات التعلم الآلي والتعلم العميق التي تعتمد على تحليل البيانات الضخمة واتخاذ قرارات ذاتية.
واليوم تشهد الخوارزميات تطورا متسارعا في مجالات مثل الحوسبة الكمومية، والتشفير، والتطبيقات التنبؤية، مما يجعلها عنصرا محورايا في الابتكار الرقمي والتحول التقني العالمي(10)
ب. أنواع الخوارزميات في التقنية الرقمية:
توجد عدة أنواع من الخوارزميات وذلك بناء على الوظيفة التي تقوم بها (11)
1. خوارزميات البحث:
•البحث الخطي :يُستخدم للبحث في قائمة غير مرتبة.
•البحث الثنائي: يتطلب قائمة مرتبة ويُقلل عدد العمليات الحسابية.
2. خوارزميات الفرز:
•فرز الفقاعات، الإدراج، الدمج، السريع: تُستخدم لترتيب البيانات وفاقا لمعيار معين.
3. خوارزميات الذكاء الاصطناعي:
•الشبكات العصبية، الأشجار ، القرار، التعلم المعزز: تُستخدم في تحليل البيانات واتخاذ القرارات.
4. خوارزميات التشفير:
• مثل RSAوAES، تُستخدم لحماية البيانات وتأمين الاتصالات.
5. خوارزميات الضغط:
• مثل ZIPوJPEG، تُستخدم لتقليل حجم الملفات.
6. خوارزميات التوجيه:
• مثل DijkstraوBellman-Ford، تُستخدم في الشبكات لتحديد أفضل مسار لنقل البيانات.
ج. التطبيقات المعاصرة للخوارزميات:
تُستخدم الخوارزميات في مجالات متعددة مثل:
•الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي
•تحليل البيانات الضخمة
•الأمن السيبراني
•الروبوتات
•أنظمة التوصية مثل: Netflix وAmazon))
ثانيا: كيف تؤثر الخوارزميات على اختيار المحتوى وتوجيهه؟:
الخوارزميات في منصات مثل فيسبوك، إنستغرام، تويتر، ويوتيوب تعتمد على مجموعة من العوامل لتحديد المحتوى الذي يظهر للمستخدم، منها:
•الاهتمامات الشخصية: يتم تحليل التفاعلات السابقة (إعجابات، تعليقات، مشاركات) لتحديد نوع المحتوى المفضل.
•العلاقات الاجتماعية: تُعطي الأولوية للمحتوى من الأصدقاء أو الحسابات التي يتفاعل معها المستخدم بكثرة.
• نوع المحتوى : الصور والفيديوهات تحصل على ترتيب أعلى من النصوص في بعض المنصات.
• الزمن والتحديثات : المحتوى الحديث يُعرض أوالا لزيادة التفاعل.
• الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي :تُستخدم هذه التقنيات لتحسين دقة التوصيات وتوجيه المحتوى بشكل أكثر تخصيصا.
هذه الخوارزميات لا تكتفي بعرض المحتوى، بل تُوجه المستخدم نحو أفكار أو منتجات أو حتى مواقف معينة، مما يثير تساؤلات أخلاقية حول الاستقلالية والتلاعب(12).
أمثلة لعمل الخوارزميات في بعض مواقع التواصل الاجتماعي:
1. فيسبوك (Facebook): يعتمد على خوارزمية تُسمى سابقًا Rank Edge، وتطورت لاحقًا لتشمل تقنيات الذكاء الاصطناعي. تقوم الخوارزمية بتحليل:
• مدى التفاعل مع المنشور (إعجابات، تعليقات، مشاركات)
• العلاقة بين المستخدم وصاحب المنشور
• نوع المحتوى (نص، صورة، فيديو)
• توقيت النشر
والهدف هو عرض المنشورات التي تثير أكبر تفاعل بين الأصدقاء والعائلة.
2. إنستغرام ((Instagram : يعتمد على خوارزميات تركز على:
• التفاعل السابق مع الحسابات (الإعجابات، التعليقات)
• نوع المحتوى المفضل (صور، فيديوهات، قصص)
• توقيت النشر ومدى حداثة المنشور
والهدف إبقاء المستخدم أطول فترة ممكنة على المنصة من خلال تقديم محتوى جذاب ومخصص.
3. تيك توك (TikTok): يعتمد على خوارزمية متقدمة جدًا تستخدم:
•وقت المشاهدة لكل فيديو
• التفاعل (الإعجاب، المشاركة، التعليق)
• نوع الموسيقى أو الصوت المستخدم
• الاهتمامات المستنتجة من سلوك المستخدم
والهدف: تقديم محتوى سريع وجذاب يتناسب مع سلوك المستخدم في الوقت الحقيقي
4. تويتر(X) : يعرض المحتوى بناءً على:
• الحسابات التي يتابعها المستخدم
• التفاعل مع تغريدات معينة
- المواضيع الرائجة (Trending Topics)
 - توقيت النشر
 
والهدف: ترتيب التغريدات حسب الأهمية والاهتمام، وليس فقط الترتيب الزمني.
5. يوتيوب(YouTube): يستخدم خوارزميات توصية تعتمد على:
• سجل المشاهدة والتفاعل
• مدة المشاهدة لكل فيديو
• معدل النقر على الفيديوهات المقترحة
• جودة المحتوى بناءً على تقييمات المستخدمين
والهدف: إبقاء المستخدم أطول فترة ممكنة على المنصة من خلال تقديم محتوى جذاب ومخصص.
ثالثا: التحيزات الخوارزمية:
أ. هل الذكاء الاصطناعي محايد ثقافيا؟:
الذكاء الاصطناعي ليس محايادا ثقافيا بطبيعته، بل يتأثر بالخلفيات الثقافية والقيمية للمبرمجين والبيانات التي يُدرّب عليها من خلال التغذية التي يقوم بها المبرمجون، وقد لا تكون بالضرورة هذه التحيزات بناء على الخلفيات الثقافية أو القيمية لهم، بل بناء على سياسة الشركة القائمة على تحقيق أهداف معينة وفقاً للاستراتيجية الخاصة بالشركة، وكذلك يتسع الأمر لتحقيق أهداف دولية لمنظمات أو دول بعينها على حسب الدول والمجموعات الأخرى الضعيفة تقنياً أو البعيدة نسيباً على عالم التقنية.
هذا التحيز الثقافي قد يؤدي إلى نتائج غير عادلة أو غير ملائمة لمجتمعات معينة، خاصة إذا كانت تلك المجتمعات غير ممثلة بشكل كافٍ في مراحل تطوير الأنظمة الذكية، وكذلك يؤدي إلى خلق سرديات غير حقيقية لوقائع تاريخية وبالتالي فرض واقع لا يقوم على مرجعيات عادلة.
ب. أمثلة عملية واقعية على التحيزات الخوارزمية: (13)
1. أنظمة التعرف على الوجه
أظهرت دراسات أن بعض الأنظمة التجارية للتعرف على الوجه كانت أقل دقة في التعرف على النساء والأشخاص ذوي البشرة الداكنة، بسبب تدريبها على صور لأشخاص من خلفيات عرقية محددة (غالبًا رجال بيض)
2. خوارزميات التوظيف
شركة أمازون أوقفت نظامًا للتوظيف بالذكاء الاصطناعي بعد اكتشاف أنه يفضل السير الذاتية للذكور على الإناث، نتيجة تدريبه على بيانات تاريخية غير متوازنة
3. خوارزميات الموافقة على القروض
في القطاع المالي، أظهرت بعض الخوارزميات تمييزًا ضد الأقليات العرقية، حيث ربطت بين رموز بريدية معينة ومخاطر مالية أعلى، مما أدى إلى رفض غير عادل للقروض.
4. الشرطة التنبؤية
استخدام بيانات تاريخية منحازة في تدريب خوارزميات التنبؤ بالجريمة أدى إلى تعزيز التمييز ضد مجتمعات معينة، مثل الأمريكيين من أصل أفريقي.
المحور الرابع: التنوع الثقافي في مواجهة التوحيد الرقمي:
أولا: هل يهدد الاعلام الذكي التنوع الثقافي؟:
لابد لنا هنا أولًا أن نشير بوضوح لقضية مهمة وهي أن الاعلام الذكي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل صار فاعلا ثقافياً يعيد تشكيل الهويات والمجتمعات وبالتالي يمكن الإشارة لعدة مهددات تواجه التنوع الثقافي عبر الاعلام الذكي مستصحبين أثر الرقمنة على كل أوجه الحياة المعاصرة. فمن المهددات التي يمكن الإشارة اليها:
1. فقاعات التصفية وتضييق الأفق الثقافي: تعتمد المنصات الذكية على خوارزميات تُظهر
للمستخدمين المحتوى الذي يتماشى مع تفضيلاتهم السابقة، مما يؤدي إلى حصرهم في دوائر ضيقة من المعلومات، ويُقلل من تعرضهم لثقافات وآراء مختلفة.
2. هيمنة المحتوى العالمي على المحلي: تُروّج المنصات الكبرى لمحتوى عالمي (غالبًا غربي)
على حساب المحتوى المحلي، مما يُهدد بطمس الهويات الثقافية، خاصة لدى الأجيال الشابة.
3. تسليع الثقافة: يُشجع الإعلام الذكي على تقديم الثقافة في شكل منتج قابل للاستهلاك السريع، مما يُفرغها من عمقها الرمزي والتاريخي، ويحولها إلى "ترندات" سطحية.
4. التحيزات المضمّنة في الخوارزميات: تعكس خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحيزات البيانات التي تُدرّب عليها، مما يؤدي إلى تهميش لغات ولهجات وثقافات لا تحظى بتمثيل كافٍ.
5. تغييب الأصوات المهمّشة: يفضل الإعلام الذكي المحتوى الذي يحقق تفاعلًا عاليًا، مما يُقصي الأصوات الثقافية الهادئة أو غير الرائجة، ويُضعف التنوع في السرديات.
6. تقديم سرديات زائفة: عن بعض المكونات الاجتماعية والهويات الدينية والثقافية(14(
ثانيا: فرص الذكاء الاصطناعي في إبراز الثقافات المحلية:
على الرغم مما أشرنا إليه أعلاه في مهددات الإعلام الرقمي على التنوع الثقافي إلا أن ذات الاعلام الذكي، ومن خلال آليات الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يتيح فرصاً لإبراز الثقافات المحلية عبر التوظيف الأمثل لهذه التقنيات، ومن ذلك يمكننا الإشارة هنا الى:
1. حفظ التراث والثقافات المحلية وتقديمها للناس: الذكاء الاصطناعي يُتيح أرشفة التراث الثقافي رقميًا، بما في ذلك الصور، الفيديوهات، القصص، الأغاني، والممارسات التقليدية. ويمكن استخدام تقنيات مثل التعرف على الصور والصوت لتحليل وتوثيق العناصر الثقافية، ثم تقديمها للجمهور عبر منصات ذكية. (مثال: مشروع "Google Culture & Arts" الذي يُتيح استكشاف المتاحف والتراث العالمي رقميًا).
2. جعل التراث المحلي والثقافات المحلية ذات فاعلية وأثر (الانتقال من الحماية الى الاستدامة): بدلًا من الاكتفاء بحماية التراث، يمكن للإعلام الذكي أن يُعيد دمجه في الحياة اليومية من خلال المحتوى التفاعلي، التعليم، والسياحة الثقافية الرقمية. هذا يُحوّل التراث من مادة محفوظة إلى مورد حي يُسهم في التنمية الثقافية والاقتصادية. (مثال: استخدام القصص الشعبية في ألعاب تعليمية أو تطبيقات للأطفال)
3. التعرف على اللهجات المحلية والتفريق بينها: يمكن تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على التمييز بين اللهجات المحلية، مما يُسهم في فهم التنوع اللغوي داخل المجتمع الواحد. هذا يُفيد في تطوير تطبيقات الترجمة، التعليم، والمحتوى الصوتي الموجه.(مثال: نماذج التعرف على الكلام مثل Whisper من OpenAI يمكنها تحليل اللهجات بدقة).
4. حفظ اللهجات المحلية من الاندثار: من خلال تسجيل وتحليل اللهجات، يمكن بناء قواعد بيانات لغوية تُستخدم في التعليم، البحث، والإنتاج الإعلامي. هذا يُسهم في حفظ اللهجات التي قد تكون مهددة بالاندثار، خاصة في المجتمعات الصغيرة أو المهمّشة. (مثال: مشاريع توثيق اللغات الأصلية في إفريقيا وآسيا باستخدام الذكاء الاصطناعي).
5. ابراز الثقافات المحلية بصورة جذابة من خلال استخدام تقنيات مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضي والميتافيرس: تُتيح هذه التقنيات تقديم تجربة ثقافية غامرة، مثل زيارة سوق شعبي أو مهرجان تراثي عبر الواقع الافتراضي، أو التفاعل مع عناصر ثقافية عبر الواقع المعزز. والميتافيرس يُمكن أن يُصبح فضاءً رقميًا للعرض الثقافي والتفاعل المجتمعي.
6. بناء نماذج (روبوتات) تعبر عن المحتوى المحلي: يمكن تصميم روبوتات ذكية تتحدث باللهجة المحلية، تروي القصص الشعبية، أو تُقدّم معلومات عن التراث، مما يُعزز من حضور الثقافة المحلية في الفضاء الرقمي.
هذه الروبوتات يمكن أن تُستخدم في التعليم، السياحة، أو حتى في المناسبات الثقافية مثل الروبوت "سارة"، أول روبوت سعودي تفاعلي ثقافي يحتوي الروبوت على نموذج مدرب مسبقاً يتعرف على اللهجات السعودية المختلفة وتحليل الجمل وفهم محتواها، ومن ثم تقديم الجواب المناسب وإرساله على شكل نص.
7. انشاء أرشيف رقمي تفاعلي: يمكن للإعلام الذكي أن يُسهم في بناء أرشيف رقمي شامل يحتوي على الصور، الفيديوهات، القصص، والمقاطع الصوتية التي توثق التراث المحلي، مما يُسهل الوصول إليه عبر تطبيقات ذكية ومحركات بحث مخصصة. (مثال: المتاحف الافتراضية: تستخدم تقنيات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي لتقديم جولات تفاعلية في المتاحف والمواقع التراثية، مثل مشروع "جولات افتراضية في المتاحف الكورية" الذي يتيح للزوار حول العالم استكشاف التراث الكوري دون الحاجة للسفر. وتطبيق متاحف قطر الذي يتيح الفرصة عبر التفاعل مع الذكاء الاصطناعي فرصة زيارة لأكثر من أربعة متاحف وترتيب الجولة وتفاصيلها.
8. تعزيز المشاركة المجتمعية في انتاج المحتوى الثقافي: من خلال أدوات الذكاء الاصطناعي التفاعلية، يمكن إشراك أفراد المجتمع المحلي في إنتاج وتحرير المحتوى الثقافي، مثل استخدام تطبيقات تُمكّنهم من تسجيل قصصهم أو توثيق تقاليدهم بلغاتهم ولهجاتهم. (مثال منصة Social Pinpoint وهي منصة تفاعلية تُستخدم في مشاريع المشاركة المجتمعية، وتُوظف الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات، تخصيص المحتوى، وتقديم أدوات تفاعلية للمستخدمين).
ثالثا:كيف يتفاعل الاعلام الذكي مع الخصوصية الثقافية؟:
في ظل التطورات المتسارعة لتقنيات الذكاء الاصطناعي، صار الاعلام الذكي حاضراً في المجال الثقافي بقوة، حيث صار فاعلًا ثقافياً لا يمكن تجاوزه.
وعلى الرغم من تحدى توحد الثقافة الذي أشرنا له سابقاً في هذه الورقة إلا أن الإعلام الذكي يمتلك إمكانات كبيرة لتعزيز الخصوصية الثقافية إذا ما تم توظيفه بشكل مسؤول.
تشير دراسة حديثة للدكتور جورج ميكروس، من جامعة حمد بن خليفة، إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل Soraو Engine Voice قادرة على إنتاج محتوى صوتي ومرئي يحاكي الإنتاج البشري، مما يتيح فرصًا غير مسبوقة لتقديم الثقافة المحلية بطريقة جذابة وتفاعلية. ومع ذلك، يحذر "ميكروس" من أن هذه الأدوات قد تُظهر تحيزات ضمنية إذا لم تُدرّب على بيانات متنوعة ثقافيًا، مما يستدعي دمج الثقافة الإعلامية في المناهج التعليمية لضمان وعي المستخدمين بكيفية إنتاج المحتوى وتقييمه(15) .
من جهة أخرى، تؤكد الباحثة هبال فتحي في ورقتها المنشورة بمجلة "بحوث ودراسات في الميديا الجديدة" أن الذكاء الاصطناعي في الإعلام الرقمي يجب أن يخضع لقواعد أخلاقية واضحة، تضمن احترام الخصوصية الثقافية وعدم تهميش الهويات المحلية.
وتشير إلى جهود منظمة اليونسكو في صياغة إرشادات دولية لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام، بما يضمن التعددية الثقافية ويمنع الانحياز (16).
كما تبرز دراسة نقدية منشورة في مجلة جامعة القاهرة أن دور القائم بالاتصال في المؤسسات الإعلامية الحديثة أصبح أكثر تعقيدًا، إذ يتطلب منه فهم السياقات الثقافية المختلفة التي يتفاعل معها الذكاء الاصطناعي، وتوجيه المحتوى بما يتناسب مع خصوصية كل مجتمع (17).
المحور الخامس نحو إعلام ذكي يعزز الهوية والتنوع:
أولا: أهمية السياسات للإعلام الذكي بالنسبة للهوية الثقافية:
تنبع أهمية الإعلام الذكي من كونه صار فاعلا ثقافياً أصيلا، فضلا عن كونه وسيلة مركزية في تشكيل الوعي الجمعي ونقل القيم وصياغة وتقديم الصورة الذاتية للفرد والجماعة. فلذلك تشكل السياسات الإعلامية حجر الزاوية وذلك من عدة أوجه.. نذكر منها:
1. تعزيز الانتماء والوعي بالهوية من خلال:
• إبراز الرموز الثقافية واللغوية والدينية.
• دعم الإنتاج الإعلامي المحلي الذي يعكس الواقع والتاريخ الوطني.
• مقاومة الذوبان في ثقافات أخرى عبر المحتوى المستورد غير المنضبط.
2. مواجهة التشويه والتغريب عبر:
• وضع ضوابط للمحتوى المستورد.
• ضمان تمثيل عادل ومتوازن للثقافة المحلية في وسائل الإعلام.
• الحماية من الصور النمطية التي تروجها بعض المنصات العالمية.
3. دعم التنوع الثقافي داخل المجتمع وذلك بـ:
• تمكين المكونات الثقافية المختلفة من التعبير عن نفسها.
• تعزيز الحوار الثقافي الداخلي.
• منع التهميش أو الإقصاء لأي فئة ثقافية.
4. التوثيق الثقافي والتاريخي من خلال:
• إنتاج برامج وثائقية وسرديات تاريخية.
• أرشفة الممارسات الثقافية والفنية.
• دعم المبادرات التي تربط الإعلام بالفنون والهوية، كما في المبادرة التي اقترحتها سابقًا حول توثيق الموانئ بالفن التشكيلي.
5. التصدي للحروب الثقافية الرقمية: في عصر الخوارزميات والمنصات العالمية، تصبح السياسات الإعلامية:
• وسيلة لحماية الهوية من التلاعب بالمحتوى.
• أداة لضمان تمثيل عادل في الفضاء الرقمي.
• وسيلة لتطوير إعلام ذكي يعزز الهوية بدلًا من تهميشها.
ثانيا: دور المؤسسات الثقافية والتعليمية في توجيه الإعلام الذكي:
يقع على المؤسسات الثقافية والتعليمية دور عظيم ومحوري في توجيه الإعلام الذكي على الصعيدين الرسمي والشعبي، من خلال بناء محتوى يعزز الهوية الثقافية، ويواكب التحولات الرقمية، ويستثمر في الذكاء الاصطناعي لخدمة الثقافة. ويمكننا هنا تقسيم الأدوار على مستويين.. الرسمي والشعبي:
أ. الدور الرسمي للمؤسسات الثقافية والتعليمية:
1. وضع السياسات الثقافية والإعلامية: المؤسسات الحكومية تضع السياسات التي توجه الإعلام نحو تعزيز الهوية الثقافية، مثل دعم المحتوى المحلي، وحماية الملكية الفكرية، وتشجيع الابتكار في الإنتاج الإعلامي. (مثال: دعم وزارات الثقافة في بعض الدول العربية للمهرجانات الرقمية، والمنصات الثقافية التفاعلية).
2. تمويل المبادرات الإعلامية الثقافية: توفر المؤسسات الرسمية التمويل للمشاريع الإعلامية التي تروج للتراث والفنون، مثل إنتاج أفلام وثائقية، أو تنظيم فعاليات ثقافية رقمية. (مثال: دراسة مصرية على قناة النيل الثقافية وصحيفة أخبار الأدب أظهرت أن ضعف التمويل يؤثر على جودة الإنتاج الثقافي).
3. إطلاق حملات توعية وتدريب:
تنظم المؤسسات الثقافية حملات توعية بأهمية الثقافة في الإعلام، وتدرب الإعلاميين على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي والوسائط الحديثة في إنتاج محتوى ثقافي جذاب.
ب. الدور الشعبي والتعليمي:
1. دمج الثقافة في المناهج التعليمية: المؤسسات التعليمية تدمج مفاهيم الهوية الثقافية في المناهج، وتستخدم الإعلام الذكي كأداة تعليمية، مثل البودكاست الثقافي، والواقع الافتراضي في دراسة التراث.
2. تشجيع الطلاب على إنتاج محتوى ثقافي: عبر ورش العمل والمشاريع التفاعلية، يتم تحفيز الطلاب على إنتاج محتوى يعكس ثقافتهم، مما يخلق جيلًا واعيًا قادرًا على استخدام الإعلام الذكي في التعبير عن هويته.
3. التفاعل مع الإعلام الجديد: المؤسسات التعليمية تشجع الطلاب على استخدام المنصات الرقمية لنشر الثقافة، مثل إنشاء مدونات، أو قنوات يوتيوب تعليمية، أو تطبيقات ثقافية تفاعلية.
ج. الفرص والتحديات:
•التحديات:
- ضعف التمويل
 - الرقابة السياسية
 - هيمنة المحتوى الترفيهي
 - المنافسة مع الإعلام الغربي.
 
• الفرص:
1.استخدام الذكاء الاصطناعي لتخصيص المحتوى الثقافي
2. الواقع الافتراضي لتوثيق التراث
3. منصات البث التفاعلي لتعزيز الحوار الثقافي
المحور السادس: المواثيق الدولية كإطار ناظم للإعلام الذكي وحماية الهوية:
في هذا المحور سوف نتناول أهم التوصيات والمواثيق والإعلانات ذات العلاقة بالهوية والتنوع الثقافي في ظل الذكاء الاصطناعي، من خلال ما ورد من اليونيسكو والألكسو والإيسسكو.
أولا: اليونسكو(UNESCO)
نبذة عن المنظمة: منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، تأسست عام 1945، وتُعنى بتعزيز التعاون الدولي في مجالات التعليم والثقافة والعلوم، وحماية التراث الثقافي والهوية ومقرها في العاصمة الفرنسية باريس وتبلغ عضويتها194 دولة.
أ. الميثاق المتعلق بالتنوع الثقافي:
اتفاقية 2005 لحماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي هي أداة قانونية دولية تهدف إلى حماية التنوع الثقافي في مواجهة العولمة الرقمية، وتؤكد على حق الدول في تبني سياسات ثقافية تحمي الإنتاج المحلي وتدعم التعددية الإعلامية (17).
منطلقات الاتفاقية:
•احترام كرامة جميع الثقافات.
•تعزيز التعاون الدولي الثقافي.
•دمج الثقافة في التنمية المستدامة.
•حماية التعبيرات الثقافية في البيئات الرقمية.
ب. الميثاق المتعلق بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي:
توصية اليونسكو بشأن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (2021) هي أول معيار عالمي شامل في هذا المجال، وتغطي قضايا مثل الشفافية، العدالة، التنوع الثقافي، والرقابة البشرية على الأنظمة الذكية .(18)
منطلقات التوصية:
• احترام حقوق الإنسان والكرامة.
• ضمان العدالة وعدم التحيز الخوارزمي.
• حماية اللغات والثقافات المهددة بالاندثار.
• تعزيز الوصول إلى الثقافة عبر الذكاء الاصطناعي.
ثانيا: الألكسو(ALECSO)
نبذة عن المنظمة: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تأسست عام 1970، وتعمل تحت مظلة جامعة الدول العربية، وتهدف إلى تنسيق الجهود العربية في مجالات التعليم والثقافة والعلوم، ومقرها في العاصمة التونسية (تونس) وعدد الأعضاء 22 دولة.
الميثاق المتعلق بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي:
ميثاق الألكسو لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي(2025(: يمثل إطارًا مرجعيًا عربيًا لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم والثقافة والعلوم، ويؤكد على احترام الخصوصية الثقافية والقيم الإنسانية(19) .
منطلقات الميثاق:
• الكرامة الإنسانية والعدالة.
• حماية التراث الثقافي العربي.
• السيادة التكنولوجية.
• الشفافية والمساءلة.
ثالثا: الإيسسيكو (ICESCO / ISESCO):
نبذة عن المنظمة: المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، تأسست عام1982، وتضم 53 دولة عضوًا في منظمة التعاون الإسلامي، وتُعنى بتعزيز التعاون في مجالات التعليم والثقافة والعلوم، مع التركيز على الهوية الإسلامية، ومقرها في العاصمة السعودية الرياض.
الميثاق المتعلق بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي:
ميثاق الرياض لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي (2024) أطلقته الإيسسيكو بالتعاون مع الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، ويهدف إلى تطوير الذكاء الاصطناعي بما يتماشى مع القيم الإسلامية، ويشمل إنشاء لجنة مراقبة للذكاء الاصطناعي (20).
منطلقات الميثاق:
• احترام الخصوصية والكرامة الإنسانية.
• تعزيز التضامن والعدالة.
• حماية دور الأسرة في المجتمعات الإسلامية.
• دعم التنمية المستدامة والتعاون الدولي.
رابعا: جدول يوضح المقارنة بين المواثيق وعلاقتها بالهوية والتنوع وتحدي الخوارزمية:
                    
خلاصة تحليلية:
يمكننا الإشارة هنا إلى أن هذه المواثيق الثلاثة تلتقي في التأكيد على أن الذكاء الاصطناعي، رغم إمكانياته، يحمل أخطاراً على الهوية الثقافية إذا لم يُضبط أخلاقياً، بيد أن هذه المواثيق كذلك تختلف في زاوية المعالجة فنجد أن:
1. اليونسكو: تنطلق من منظور عالمي انساني.
2. الألكسو: تركز على البُعد العربي والسيادة الثقافية.
3. الإيسسكو: تعالج الموضوع من زاوية الخصوصية الإسلامية والتنوع الداخلي.
التوصيات:
ومن كل ما سبق من محاور حول علاقة الإعلام الذكي بالهوية الثقافية من خلال التحديات الرقمية توصي الورقة بما يلي:
1. صياغة سياسات إعلامية ذكية تراعي الهوية الثقافية على المستويين الرسمي وغير الرسمي، مع ضرورة التنسيق الفعّال بين المؤسسات الإعلامية والثقافية والتعليمية لضمان الاتساق في التوجهات.
2. تعزيز الدراية الإعلامية لدى الجمهور عبر برامج التثقيف والتوعية، بما يضمن فهم آليات الإعلام الذكي والخوارزميات، وقدرة الأفراد على التفاعل النقدي مع المحتوى الرقمي.
3. تطوير خوارزميات إعلامية تراعي السياقات الثقافية المحلية، من خلال تدريبها على بيانات متنوعة، تمثل الهويات الوطنية واللغوية والدينية، بما يحد من التحيزات الرقمية.
4. حماية الرموز الثقافية من التفريغ التجاري، عبر وضع ضوابط أخلاقية وتقنية تضمن احترام الرموز التاريخية والدينية والفنية في الفضاء الرقمي.
5. تشجيع المشاركة المجتمعية في إنتاج المحتوى الثقافي، من خلال منصات تفاعلية وأدوات رقمية تتيح للأفراد توثيق تراثهم والتعبير عن هويتهم بلغاتهم ولهجاتهم.
6. الاستفادة من المواثيق الدولية ذات الصلة (مثل مواثيق اليونسكو والألكسو والإيسسكو) في صياغة السياسات الوطنية، لضمان توافقها مع المبادئ العالمية لحماية التنوع الثقافي في العصر الرقمي.
7. دمج الثقافة الرقمية في المناهج التعليمية، بما يُمكّن الأجيال الجديدة من فهم العلاقة بين التقنية والهوية، وتوظيف الإعلام الذكي في خدمة الثقافة المحلية.
8. إنشاء منصات رقمية وأرشيفات تفاعلية لحفظ وتوثيق التراث الثقافي، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، بما يضمن استدامة الهوية الثقافية في البيئة الرقمية.
الخاتمة:
• بعد هذا الاستعراض التحليلي لمحاور الورقة وصولا إلى التوصيات، يتضح لنا أن الإعلام الذكي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل تحول إلى فاعل ثقافي مؤثر يعيد تشكيل الهويات ويؤثر في التنوع الثقافي على نحو غير مسبوق.
• ومع تسارع وتيرة التطور التقني، تتزايد فرص الإعلام الذكي في تعزيز التعبير الثقافي والانفتاح، لكنه في الوقت ذاته يطرح تحديات عميقة تتعلق بالتحيزات الخوارزمية، وتوحيد الثقافة، وتهميش الهويات المحلية.
• إن التعامل مع هذه التحديات لا يكون برفض التقنية، بل بتوظيفها بوعي ومسؤولية، عبر سياسات إعلامية رشيدة، ومؤسسات ثقافية وتعليمية فاعلة، ومجتمعات مدنية تشارك بفعالية في إنتاج المحتوى وتقييمه، كما أن المواثيق الدولية تمثل إطارا مرجعيا مهما لضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي في خدمة الإنسان وثقافته، لا أداة لطمس خصوصيته أو تهميش تنوعه.
• وعليه: فإن بناء إعلام ذكي يعزز الهوية ويحمي التنوع الثقافي هو مهمة جماعية تتطلب تكامل الجهود بين الحكومات، والمؤسسات، والمبدعين، والمجتمعات، من أجل مستقبل رقمي عادل، غني، ومستدام ثقافيا، يُعبّر عن الإنسان في تعدده، لا في اختزاله.
كلمة أخيرة: " ليست التقنية هي المهدد الأعظم للهوية، بل غياب الوعي في استخدامها، فحين تكون لدينا رؤية واضحة وأهداف علمية مدروسة نُحسن من خلالها توجيه الأدوات، تصبح الخوارزميات حارسة للتنوع، لا سيافا عليه."
المصادر والمراجع:
(1) وجدي زين الدين، الإعلام الرقمي والإعلام التقليدي: دراسة تناقش حديث الاختلاف والاندثار، مجلة جامعة مصر للد ارسات الإنسانية
(2) محمد الغباري، باسل يسري عبد الفتاح عثمان، دور تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطوير الإعلام الرقمي: رؤية مستقبلية، الأكاديمية العسكرية للد ارسات العليا والاسترا
(3) مي عبد الغني، شيماء الهواري، الإعلام الرقمي: الأسس النظرية والممارسات المهنية وحدود
التلقي، المركز الديمقراطي العربي
(4) ضياء ريحان السعيدي، مفهوم الهوية، كلية التربية للعلوم الإنسانية – جامعة كربلاء
(5) "الهوية: قراءة في المفهوم والاقتراب النظري، مجلة المعيار، العدد 4، 2024
(6) غادة الحلايقة: مفهوم الهوية الثقافية، https://mawdoo3.com،2018
(7) https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000380337_ara
(8) د. حنان بنت عبيد بن المسعود، الثورة الرقمية وتداعياتها على الهوية الثقافية للأسرة العربية والخليجية، المجلة الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، 2024
(9) حكاية الخوارزميات.. هدية الإسلام للحضارة الرقمية: محمد سناجلة.. موقع الجزيرة نت، 3 أبريل 2022، https://www.aljazeera.net/tech/2022/4/3
(10) عادل محمد، تاريخ الخوارزميات: من الخوارزمي إلى العصر الرقمي .موقع Arab
2024.Tutorial
(11) Introduction to Algorithms (3rd ed.). MIT Press. Cormen, T. H.,
Leiserson, C. E., Rivest, R. L., & Stein, C. (2009)
(12) مدونة الحلول الواقعية التقنية، كيف تعمل خوارزميات السوشيال ميديا؟ - دليل شامل، 2025
(13) https://www.ibm.com/sa-ar/think/topics/algorithmic-bias
(14) أنور هارون، ابتهال عادل. "سوسيولوجيا الإعلام الجديد: دراسة ميدانية حول تأثير الإعلام الجديد على الثقافة ."مجلة جامعة القاهرة، كلية الإعلام، 1 أبريل 2023
(15) ميكروس، جورج .نماذج الذكاء الاصطناعي المستقبلية يجب أن تستند إلى القيم البشرية . مؤسسة قطر، جامعة حمد بن خليفة، 2020
(16) فتحي، هبال .أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الإعلام الرقمي .مجلة بحوث ود ارسات في الميديا الجديدة، المجلد 5، العدد 2، ص. 46–33، 1 يونيو 2024
(17) الإعلام الثقافي: كيف يمكن تطويره وتعزيز دوره؟ النجاح نت،
https://www.annajah.net/ article-45714
(18) www.unesco.org/en/articles/recommendation-ethics-artificial- intelligence
(19) https://icesco.org/en/2024/09/12/at-the-global-ai-summit- icesco-director-general-announces
(20) www.alecso.org/publications/wp-content/uploads/2025/08
(21) https://icesco.org/en/2024/09/12/at-the-global-ai-summit-
icesco-director-general-announces
