الإعلام المصري بين التدمير والتطوير: عندما تتوقف العقول عن الابتكار!!

الأحد - 26 أكتوبر 2025

- أ. د. سليمان صالح
( أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة )

أ.د. سليمان صالح

هل اعترف النظام الانقلابي أخيرا بأن الإعلام المصري يمر بأزمة تهدد وجوده ؟! هذا ما يشير له قرار رئيس الوزراء بناء علي توجيهات "السيسي" بتشكيل لجنة لتطوير الإعلام، لكن تشكيل اللجنة يوضح أن العقول توقفت عن التفكير والإبداع ومواجهة الحقيقة بشجاعة، فاللجنة تم تشكيلها من مسؤولي المؤسسات الاعلامية وبعض الخبراء وكلهم من الموالين للنظام، ولا يستطيع أحدهم أن يقدم سوي تلك الأفكار التي ترضي "السيسي"، ولا يمتلك أحدهم الشجاعة ليعلن الحقيقة الواضحة وهي أن الإعلام يموت بدون الحرية.

الأزمة صنعتها السلطة

إن كانت السلطة تريد حقا أن تطور الإعلام فيجب أن تعترف بوضوح أنها هي التي صنعت أزمته عندما سيطرت عليه، وقيدت حرية الرأي والتعبير والصحافة، وفرضت علي المؤسسات إدارات هدفها الوحيد هو إرضاء "السيسي"، والحديث عن إنجازاته بينما الشعب يعاني الفقر والقهر ويذوق المر.

عبر "السيسي" عن رغبته في أن يكون إعلامه مثل ذلك الذي استخدمه  عبد الناصر في التحكم في شعب مصر وتوجيهه وتغييب وعيه، ونسي أن الزمن اختلف، وأن العالم يعيش ثورة اتصال مكنت الأفراد من الحصول علي المعلومات والمعرفة من مصادر بديلة، وأنه يمكن أن يترك إعلام السلطة لها لتستمتع وحدها بالحديث عن الإنجازات.

ولقد جاء تشكيل اللجنة نتيجة لإدراك "السيسي" أن إعلامه فقد القدرة علي الوصول إلي الناس، فلم يعد أحد يستمع لقنواته التي يديرها جهاز المخابرات، وتقدم برامج أصبحت توفر مادة للسخرية من النظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

استطلاعات رأي عام .. لماذا؟!

هل يمتلك أحد من أعضاء هذه اللجنة أن يطالب بتكليف هيئة علمية تحترم نفسها باستطلاع الرأي العام حول الإعلام المصري، وقياس ثقة الجمهور فيه.. وأظن أن جهاز المخابرات يقوم باستطلاع الرأي العام ككل أجهزة المخابرات في العالم، لكن هذا الجهاز لا يستطيع إعلان النتائج، وأظن أنه لا يستطيع أن يكشفها للسيسي، وأنه يقدم له فقط ما يريد أن يسمعه.

وتلك مشكلة الطغاة في كل العصور أنهم يحيطون أنفسهم بالمنافقين الجبناء الذين يجيدون فنون الكذب والتدليس والتزييف لكنهم بالتأكيد لا يجيدون فنون الإعلام، فما بالك بنظريات الإعلام وأخلاقياته ومبادئه، ولم يشهد التاريخ وسيلة إعلامية نافقت الطاغية وحققت نجاحا مهما كانت إمكانياتها.. هل يذكر أحد جريدة "المقطم" علي سبيل المثال؟.. لقد وفر لها اللورد كرومر كل الإمكانيات، والتمويل، وأحدث ألات الطباعة، وفرض علي العمد والمشايخ في بر مصر أن يشتروها رغما عنهم ومع ذلك فشلت بكل المقاييس.

هل تريدون مثالا آخر؟ لقد فرض زعماء الحزب الشيوعي السوفيتي علي الموظفين شراء جريدة "أزفستيا"، وكانت أول جريدة انهارت بعد أن  تنفس الناس قدرا من الحرية، فألقوا بنسخ الإزفستيا في صناديق النفايات، فذاك هو مكانها الطبيعي.. فهل يمكن أن نسأل أعضاء لجنة التطوير: ما الذي يميز وسائل الإعلام المصرية الآن عن "أزفستيا" و"المقطم"؟! وأرجو أن تمتلك اللجنة الشجاعة لتقديم إجابة صحيحة.

شعب مصر محروم من المعرفة .. لماذا؟!

كل صحفي في العالم يعرف أن وظيفته الأولي هي الوفاء بحق جمهوره في المعرفة، وأنه وكيل الجمهور في البحث عن المعلومات وتغطية الأحداث واستجواب المسؤولين، لكن ما المعرفة التي تقدمها وسائل الإعلام المصرية لجمهورها؟!

من المؤكد أن الشعب المصري، فقد حقه في المعرفة منذ يوم 3 يوليو 2013، وأن الصحفيين الذين يعتزون بدورهم ووظيفتهم تم استبعادهم وتهميشهم ومنعهم من الكتابة وسجنهم وتخويفهم؛ فلم يعد أحد يذكر حق الجمهور في المعرفة حتي في مدرجات كليات الإعلام، فالخوف يشل العقول، ويقيد التفكير والإبداع.

هل يجرؤ أحد من أعضاء اللجنة أن يقول إن الوسيلة الإعلامية التي لا تقوم بوظيفتها في الوفاء بحق الجمهور في المعرفة لا تستحق الحياة، وأنها ستفقد الجمهور لأنه لا يجد فيها ما يشبع احتياجاته؟ وهل يمتلك أحد من أعضاء اللجنة أن يطالب بإعلان الأرقام الحقيقية لتوزيع الصحف المصرية، ومعدلات مشاهدة القنوات المصرية؟

الحقيقة أنه لن يستطيع أحد أن يتكلم .. فلماذا يجتمعون وينفقون من مال الشعب الفقير  (قوي ) باعتراف زعيمهم .. وأنا لا أكتب باللهجة العامية ، لكن للضرورة أحكام!!.

تحذير الشعب من الكوارث

هناك وظيفة مهمة تقوم بها وسائل الإعلام هي تحذير المجتمع من المخاطر والكوارث التي يمكن أن يتعرض لها، والكشف عن الانحرافات والفساد، وبذلك تحمي المجتمع وتحفزه للدفاع عن وجوده وحقوقه وحرياته وديموقراطيته .. فهل يمتلك أعضاء اللجنة الشجاعة لطرح السؤال: هل قامت وسائل الإعلام المصرية بهذه الوظيفة؟ وهل تستطيع أن تقوم بها بينما السلطة تسيطر عليها وتفرض عليها القيود؟!

هناك الكثير من الكوارث التي تتعرض لها مصر، لكن لا يستطيع صحفي أن يحذر الشعب، وهناك الكثير من أشكال الفساد والنهب المنظم لثروات مصر.. لكن لا أحد يجرؤ علي الكلام، فالجميع يعرفون مصير من يحذر الشعب! .

الظلم يدمر العمران!

إنني أري كارثة قادمة ودمارا شاملا، وأقول لهذه اللجنة بكل وضوح: إن التعتيم علي الظلم الذي يتعرض له الناس في مصر يجعل وسائل الإعلام شريكة في الجريمة، فهناك حالة ظلم عام يتعرض لها الناس، فالفقر يعض بأنيابه السوداء قلوب الملايين الذين حطم الغلاء قدرتهم علي الحياة، وجعلهم يتمنون الموت.

وهذا الفقر كان نتيجة لظلم تعرض له مئات الآلاف الذين تم سجنهم وتعذيبهم وحرمانهم من أهلهم والاستيلاء علي أموالهم، وكل جريمتهم أن يحلموا بالحرية ويدافعوا عن حق شعبهم في الاستقلال والديموقراطية.

وأخفت وسائل الإعلام المصرية المعلومات عن المآسي التي يعيشها علماء مصر في السجون بسبب غرور نظام الانقلاب بقوته الصلبة، وتأييد الدول الاستعمارية له.

من يدافع عن حرية الشعب؟!

وظيفة الإعلام أن يدافع عن حرية الشعب وحقوقه، وعندما يقوم بهذا الدور يدافع الشعب عن حرية الإعلام والإعلاميين، ومن يدرس حال الإعلام المصري منذ عام 2013 سيكتشف ان الإعلام المصري فقد حريته ومصداقيته فهجره جمهوره، وترك الصحف تموت، وقنوات التليفزيون تتوجه لشخص واحد بالمديح، وهو وحده يصدق أكاذيبها لأنه لا يريد أن يستمع إلي الحقائق.

لكن النظام يجب أن يدرك أن الجيل الجديد لا يقرأ الصحف ولا يستمع لقنوات التليفزيون، ويبحث بنفسه عن المعلومات ويتبادلها، ويكره السلطات التي لا تنفق علي الصحة والتعليم ولا توفر له فرص العمل .

ويجب أن تشاهد هذه اللجنة طوفان هذا الجيل في شوارع دول كانت تظن أنها آمنة ، وكان حكامها يطربهم المديح، ويريدون أيضا إعلاما كإعلام عبد الناصر يمدح ويغني ويطرب ويطبل ويهلل للإنجازات، بينما الشعب يموت فقرا وذلا وحرمانا.

هل تمتلك اللجنة الشجاعة لتقول إن الإعلام يموت بدون الحرية؟ وأن الحل الوحيد هو حرية الإعلام، وأن يتم بناء نظام ديموقراطي يفرض فيه الشعب إرادته ويختار نوابه ورئيسه ويستثمر ثرواته في بناء مستقبله، وفي الانفاق علي التعليم والصحة وتوفير فرص العمل وتحقيق العدالة الاجتماعية ورفع الظلم الذي يهدد بخراب الديار وتدمير العمران.

إن اللجنة لن تستطيع أن تقول هذا الكلام، وكل ما يمكن أن تقترحه هو إعادة برنامج "قال الفيلسوف" وهذا أمر شرحه يطول!! فهل سيقول الفيلسوف: لا إعلام بدون حرية!