التغيير المنهجي في الأفكار على وقع الاستبداد
الأربعاء - 27 سبتمبر 2023
عادل الأنصاري
تزايدت خلال الفترة الأخيرة وتيرة الحديث عن ضرورة أن تأخذ جماعة الإخوان المسلمين قرارا مصيريا بتركها للعمل السياسي أو المنافسة السياسية، أو ما أطلق عليه البعض "ترك الصراع السياسي على السلطة"، وهو حديث بدأت إرهاصاته الأولى في الظهور منذ سنوات بالمطالبة بضرورة الفصل ببن الدعوي والسياسي كمدخل لازم – وفق طارحيه - لخروج الجماعة من محنتها التي بدأت تتفاعل عقب الانقلاب العسكري الذي وقع في الثالث من يونيو 2013م.
هذا التطور بدا في الأفق بفكرة الفصل بين الدعوي والسياسي ثم تطور لاحقا بالدعوة الصريحة بضرورة تخلي الجماعة عن العمل السياسي وترك التنافس على السلطة الآن ومستقبلا، بل ومحاولة استدعاء التاريخ للتدليل على أن ترك العمل السياسي هو خط ثابت لدى الجماعة منذ نشأتها الأولى.
والآن دخلت هذه المحاولات طورا جديدا من خلال محاولة إعادة تعريف جماعة الإخوان المسلمين بأنها هيئة أو جماعة دعوية، بما تعنيه كلمة الدعوة من استدعاء لممارسات تحصر الدعوة في مجال الوعظ والإرشاد بعيدا عن الدخول في معترك العمل السياسي، وذلك على خلاف تعريفها منذ تأسيسها بأنها هيئة إسلامية جامعة.
وبذلك أصبحنا الآن أمام ثلاثة إشكالات يقذف بها البعض في قلب المشهد الإعلامي ويسعى لتسويقها وترويجها وصناعة قناعات بها ، تبدأ بفكرة الفصل بين الدعوي والسياسي والانطلاق لاحقا للتخلي عن المرتكز الرئيس لأي عمل سياسي وهو المنافسة على السلطة وفقا لآليات ديمقراطية ، ثم يأتي الدور على محاولة إعادة تعريف الجماعة لينزوي معها أي حديث - الآن ومستقبلا في مصر وغيرها –عن إمكانية انخراط الجماعة في العمل السياسي.
وسأكتفي هنا بالحديث عن جانب واحد فقط للنقاش حول هذه المحاولات المتكررة والجهود المبذولة لصناعة قناعات جديدة وإفراغ قناعات ثابتة من مضمونها وحرفها عن موضعها، وهو أن محاولات التغيير الشامل والمنهجي في فكر الجماعة يأتي على وقع الضغوط التي يمارسها الانقلاب بتضامن كامل مع المنظومة الإعلامية الإقليمية بكافة مكوناتها الأربعة.
ومن الواضح أن هذه الدعوات تأتي متزامنة مع حالة الاحتباس السياسي التي عانت وتعاني منها مصر عقب الانقلاب العسكري ، حيث تأتي تحت وقع الحالة المصرية التي باتت مرتهنة بانعدام الرؤية وضبابية المشهد أمام سطوة الاستبداد الذي استحل الدماء وصادر الأموال وفتح الزنازين بلا قيد أو شرط لكافة القوى والتيارات السياسية والتي – بلا شك – كان للتيار الإسلامي عامة وجماعة الإخوان المسلمين خاصة نصيب الأسد منها ، في ظل حالة الإقصاء والشيطنة التي تنتهجها السلطة الحالية تجاه الجماعة.
مرتكزات محورية
وقد يتساءل البعض حول مدى علاقة هذا الطرح ثلاثي الأبعاد مع مرتكزات الجماعة، والحقيقة أن القراءة المبدئية لفكر جماعة الإخوان المسلمين تكشف بجلاء عن محورية الطرح الشامل للإسلام نفسه والطرح الشامل للتحرك لإصلاح الأمة في إطاره ، والتي اعتبرتها الجماعة من أبرز المحاور المبدئية التي تميزها عن غيرها من الدعوات والكيانات الإسلامية الأخرى التي تبنت فكرا جزئيا تفرغت له ووقفت عند حدوده.
فجماعة الإخوان المسلمين كما شرحها الإمام المؤسس حسن البنا "دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية وثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية".
وعندما شرح البنا رؤية الجماعة لكونها هيئة سياسية علل ذلك بأنهم " يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد".
وفي ذات السياق يرتكز منهج الإخوان – وفقا لأدبيات الجماعة - على البناء والإصلاح الشامل للمجتمع والأمة ، بداية من الفرد المسلم ومرورا بالأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم وصولا إلى الدولة ثم الأمة الواحدة وأستاذية العالم، من خلال قبول المجتمع الدولي للقيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية للتعاطي مع الأزمات التي يعاني منها العالم ، بديلا عن مرجعية القيم الغربية التي يتم تسويقها في ظل حالة الصعود الغربي.
وقد تفرعت عن هذه الرؤية الشاملة والمنهجية المركزية لجماعة الإخوان المسلمين هياكل إدارية ولجان تخصصية تخدم السياقات الكبرى لأصول رؤية الجماعة في التغيير والإصلاح، بما يشكل فلسفة وجودها وسبب انطلاقها.
فنشأت الأقسام التربوية التي تغذي تربية الفرد فتأسس قسم التربية الذي يشرف على المحاضن التربوية وتأسس قسم الأخوات لتعظيم الاهتمام ببناء الأسرة وتأسست أقسام نشر الدعوة والبر والمهنيين للتحرك في الفضاء الاجتماعي بكل مكوناته، كما تأسس القسم السياسي تمهيدا للوصول إلى مرحلة الدولة، وتأسس أيضا قسم الاتصال الخارجي والدولي للتواصل مع مكونات الأمة في كافة البلدان والأقطار .
وكل ما سبق يؤكد بدلالة واضحة أن الرؤية الشاملة للعمل الإسلامي والارتباط بين الدعوي والسياسي هو ارتباط محوري في مناهج وفكر جماعة الإخوان المسلمين ، كان له انعكاس واضح على هياكل الجماعة ومؤسساتها ومكوناتها، وأن محاولة تغييره أو التخفف منه يعد محاولة لتغيير الأصول التي ارتكزت عليها الجماعة في مناهجها وأفكارها.
ومن ثم فإن تفرد جماعة الإخوان المسلمين بين أغلب الهيئات والجماعات الإسلامية بوجود أقسام سياسية في هياكلها، بل وتأسيس أحزاب سياسية تعبر عن مشروعها السياسي في بلدان كثيرة، يعد دلالة واضحة على منهجية القراءة الشاملة للدعوة الإسلامية باعتبار العمل السياسي واحدا من مكوناتها الرئيسة.
بينما في المقابل نجد جماعات وجمعيات إسلامية أخرى فرغت نفسها لجانب من العمل الدعوي فحسب لا تجد في هياكلها التنظيمية مكونا سياسيا ، ولا تجد لديها – على سبيل المثال - أقساما سياسية أو مسؤولين عن الملف السياسي ، وإلا انتفت الحاجة إلى هذه الأقسام ولم يعد هناك جدوى لوجود هياكل تعتني بالفضاء السياسي وتتحرك في إطاره.
تغيير على وقع الاستبداد
والسؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن أن يتم تغيير منهجية الجماعة وأسس بنائها والأصول التي ارتكزت عليها تحت وطأة الضغوط الأمنية والإعلامية ، وفي ظل حالة الإلحاح الإقليمية والدولية المتزايدة التي تسعى إلى تسييل الأفكار المركزية للجماعة ومن ثم تفكيك هياكلها وإزاحتها بشكل كامل من المشهد.؟
وهل من المنطق أن يتم هذا التغيير الجوهري – حال إمكانه – وهو في الحقيقة غير ممكن - في ظل عملية التغييب الكاملة للقيادات في المعتقلات والسجون والمنافي وفي ظل المعاناة التي تقع على كاهل الجسم العام للجماعة في الداخل ؟
وهل سيصب انعزال جماعة الإخوان المسلمين الآن ومستقبلا عن العمل السياسي في صالح بقية القوى والتيارات السياسية ، أم أن التجربة تؤكد أن التغييب والاستبعاد القسري لمكون كبير مثل جماعة الإخوان المسلمين سيصحبه حتما استبعاد لكافة القوى والتيارات السياسية ، وهو ما حدث في الحقبة الناصرية وتكرر في حقبة ما بعد الانقلاب العسكري الأخير ؟.
وإذا كانت سلطة الانقلاب أقدمت – خلال هذه المرحلة - على عزل قسري لجميع القوى والتيارات السياسية الجادة وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين باستثناء أحزاب كرتونية قبلت تمثيل أدوار مفتعلة وفجة، فلماذا نرهن المستقبل بهذا الواقع المعيش الآسن.؟
إن النظرة الواعية والقراءة الدقيقة للمشهد تؤكد أن الإقدام على مثل هذه الخطوة بشكل عام، وفي ظل المتغيرات والظروف التي تمر بها الجماعة في هذه المرحلة هو نوع من الانتحار وضرب من الانسحاق ولون من الاستسلام.
إن قراءة واعية للمشهد تؤكد أن الجماعة مع كافة المكونات والتيارات السياسية والفكرية ، بل وكافة مكونات الشعب المصري تعرضت خلال هذه الحقبة – منذ الانقلاب العسكري - لضربات استثنائية وحالة غير مسبوقة من التجريف والتنكيل وكثير من الخسائر.
وبالرغم من هذه الخسائر الجمة والضربات القاسية ، إلا أن وضوح الرؤية لدى كثير من القوى السياسية والمجتمعية والفكرية وكافة مكونات الشعب المصري بضرورة الخلاص من هذا الواقع والخروج من هذه المرحلة والحراك بعيدا عن حالة الانسداد الراهنة كفيل ببعث الأمل في الوصول للغاية والتخلص من هذا الكابوس ولو بعد حين.
أما الجمع بين الخسائر في الممتلكات والأراوح وغياب حرية عشرات الآلاف من المواطنين من ناحية وبين التخلي عن المبادئ والأفكار التأسيسية على وقع الضغوط الأمنية والإعلامية لا يمكن تفسيره إلا بأنه الهزيمة الحقيقية والتسليم الكامل للاستبداد والقبول به على الدوام والمصادرة على أي حالة أو محاولة نجاح ممكنة في المستقبل.
رر