شاهد عصر| "المطبخ القذر" ورقابة الإعلام "المخفية" في مصر!
الثلاثاء - 18 مارس 2025
حازم غراب
كعسكري، أدرك رئيس مصر الأسبق أنور السادات، متأخرا، ما جناه الإعلام المُسَيطر عليه كليا من نظام سلفه الديكتاتور عبد الناصر، فقرر إلغاء جهاز الرقابة على الصحافة والإذاعة والتليفزيون.
بالفعل، انسحب كل الرقباء المعينين في المؤسسات الصحفية المؤممة إضافة إلى الذين كانوا يقبعون في إدارتي الإذاعة والتليفزيون.
تفتق ذهن السادات، بحكم ما أسفرت عنه تجربة سلفه الرقابية من كوارث أهمها هزيمة يونيو ١٩٦٧، عن حيلة لاستئناف الرقابة الصحفية والإعلامية بالرقباء القدامى ذاتهم، وكبيرهم آنذاك طلعت خالد، واتخذ لهم النظام مقرا لصيقا وتابعا لمكتب وزير الإعلام بالطابق التاسع في مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون بماسبيرو.
أما آلية عمل الجهاز (شبه المخفي) فكانت كالتالي: يصدر الرئيس نفسه، ومن يعينهم ليديروا أجهزة المخابرات العامة والحربية ووزارة الداخلية، تعليماتهم بعدم نشر أو إذاعة أخبار أو مقالات أو برامج أو أفلام أو مسلسلات، وتُبَلّغ هذه التعليمات من المذكورين عبر هواتف محددة إلى مكتب الرقابة شبه المخفي، والذي يداوم فيه الرقباء على مدار الساعة ليلا ونهارا.
موظفو الرقابة الذين يردون على هواتف التعليمات يسجلونها نصيا وحرفيا في دفتر كبير كل يوم، مع كتابة اسم القائم بإملاء التعليمات، والجهة التابع لها. وفور ذلك التسجيل يشرع المنابون في المكتب بالاتصال هاتفيا برؤساء تحرير كل الصحف والمجلات ومديري الإذاعة والتليفزيون بأشخاصهم وليس بمساعديهم أو نوابهم، ويسجل الرقباء أسماء من تلقوا التعليمات وساعة تبلغهم إياها تحسبا لمساءلة من يجرؤ على نسيانها أو عدم تنفيذها.
ولما كانت شبكة هواتف مصر كلها متهالكة بسبب سوء الإدارة وانهيار ميزانية الدولة ولطول سنوات الحرب، فقد كان مكتب الرقابة في حال تعذر الاتصالات الهاتفية برؤساء التحرير والإذاعة والتليفزيون، كان يكتب التعليمات في خطاب عاجل مغلق مكتوب عليه اسم المرسل إليه كالتالي: إلى فلان ... وتحت اسمه: سري جدا ولا يفتح إلا بمعرفة سيادته.
أتذكر أن المندوب الذي كان يوزع تلك الخطابات السرية راكبا دراجة نارية (لغرض السرعة الشديدة)، تأخر يوما عن العودة من المؤسسة الصحفية التي حمل إليها الخطاب السري، في حين كان هناك خطاب سري آخر يجب تسليمه بسرعة إلى أنيس منصور رئيس تحرير مجلة أكتوبر حينذاك، إذ كانت تعليمات مكتب الرئيس نفسه أن تُسلم التعليمة فور تلقي مكتب الرقابة إياها إلى شخص أنيس (عاجل جدا).
كنت حينها أصغر أعضاء مكتب الرقابة المخفي أو المتخفي سنا، وصدر القرار بأن أذهب أنا على الفور سيرا على الأقدام إلى أنيس بمكتبه على بعد خطوات من مبنى ماسبيرو.
هناك اندهشت سكرتارية مكتب أنيس من إصرار شاب صغير على طلب مقابلة الكاتب الشهير فورا وشخصيا.. وفور إبلاغي إياهم أنني قادم من مكتب طلعت خالد وأن يبلغوا رئيسهم بذلك، خرج لي أنيس فورا من مكتبه مرحبا ومتسائلا: خيرا ماذا عندك؟ أجبته: الرئيس يأمر بألا تكتب ما طلب منك كتابته. رد مندهشا: لقد كنت مع الرئيس أمس فكيف يأمر اليوم بألا أكتب ما طلبه؟ رددت: ببساطة الرئيس غير رأيه! أومأ برأسه المنحني وقال: "حاضر يافندم"!
خرجت مزهوا بتأدية المهمة، ومزدريا نجم نجوم الكتاب الصحفيين الذي يكتب بتعليمة ويمتنع عن الكتابة بتعليمة.
وعلى الجانب الآخر، لم يثق الناشرون الإسلاميون والمسيحيون -أو أعداد منهم- في صدق اتجاه النظام الساداتي نحو الحريات والديموقراطية، فكان الناشر الحاج حسن عاشور مسؤول مجلة الاعتصام، وشقيقه الحاج حسين صاحب مجلة المختار الإسلامي، وبعض مسؤولي النشرات الكنسية يخشون من غدر وعدم صدق النظام، واحتمالات مصادرة الاعتصام والمختار والنشرات الكنسية بعد طباعتها وقبيل توزيعها، فكانوا يتحسبون ويحتمون من الخسارة بالحصول على موافقات مسبقة من الجهاز الرقابي المخفي أو المتخفي القابع في مكتب وزير الإعلام، على محتوى مطبوعاتهم.
أطلقت على هذا الجهاز لاحقاً اسم "المطبخ القذر"، لأنه كان يوزع تعليماته اليومية الكثيرة والصريحة (النصية المكتوبة والشفهية الموثقة رسميا)، للتضليل وغسل الأدمغة والتعتيم والدعاية، على كل وسائل الإعلام الحكومية المكتوبة والمسموعة والمرئية.
الجهاز عمل به أشخاص كان معظمهم يرفضون في قرارة أنفسهم دوره.. كان البعض منهم بدرجة باحث سياسي أو إعلامي، أو سبق لهم العمل في جهاز الرقابة على المطبوعات الداخلية والخارجية الذي ألغاه السادات رسميا وأبقاه شبه مخفي.