السيسي في مأزق:إما تنفيذ شروط قاسية لصندوق النقد أو التخلف عن سداد الديون

الأربعاء - 27 يوليو 2022

تواجه الحكومة المصرية مأزقا صعبا، بين تطبيق شروط صندوق النقد (القاسية) للحصول على قرض جديد، ومن ثم مواجهة غضب شعبي قد يقوض أركان النظام، وبين تخلف عن سداد القروض السابقة التي من أجلها تسعى الحكومة للحصول على القرض الجديد، وهو ما يؤدي بمصر إلى إفلاس محقق.

وفي محاولة للخروج من هذا المأزق، طالب عبد الفتاح السيسي «أصدقاءه في أوروبا» بالضغط على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتخلي عن شروط الإقراض الصعبة، لأن «الواقع الموجود في بلادنا لا يحتمل المعايير المعمول بها خلال هذه المرحلة، وحتى تنتهي هذه الأزمة»، وذلك خلال مؤتمر صحفي جمعه بالمستشار الألماني، أولاف شولتس، في العاصمة الألمانية برلين الأسبوع الماضي.

طلب السيسي لم يكن معتادًا بحسب تغطية «بلومبرج» العربية، وهذا التصريح هو «الأول من نوعه لمسؤول مصري يطالب فيه الغرب بنقل تحديات الوضع في مصر إلى صندوق النقد، من أجل إتمام اتفاق القرض دون المعايير المعمول بها في الصندوق أو اشتراطاته الحالية"!

ويتناقض هذا الموقف مع ما أكد عليه السيسي أوائل العام الجاري من أن الصندوق أبدى تفهمًا لظروف مصر، وأنه لا يفرض شروطًا إجبارية عليها.

خلال هذه الفترة، تغير الكثير من العوامل التي تسببت في تعقد الأزمة التي تواجهها مصر بشكل كبير ولم تعد الحلول التقليدية التي تبنتها مصر خلال الأعوام الماضية (من التوسع الكبير في الاستدانة من تجار الديون التقليديين أو الاستعانة بالحلفاء من دول الخليج) كافية للتعامل مع الأزمة.

وفي الوقت نفسه، تدفع مصر هذا العام عشرات المليارات من الدولارات لسداد أقساط ديونها أو فوائدها، جزء كبير منها لم تتوقع مصر الاضطرار له قبل الغزو الروسي لأوكرانيا والأزمة الاقتصادية التي تسببت في هروب تجار الديون بأموالهم.

وبسبب هذه الورطة، أصبح اللجوء لمؤسسات الإقراض الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي حتميًا الآن رغم فداحة الشروط.

إجراءات أكثر تقشفًا وصرامة

طلبت مصر في البداية قرضًا يتجاوز عشرة مليارات دولار، ويتطلب الحصول على هذا القرض اتخاذ إجراءات اقتصادية أكثر تقشفًا وصرامة، كتقليص الدعم وخفض قيمة الجنيه مقابل الدولار، وما قد يترتب عليه من ارتفاع في الأسعار، حتى أكبر من الارتفاع الهائل الذي يواجهه المواطن المصري الآن.

تسببت هذه الشروط في خلاف بين أجنحة البيروقراطية المصرية حول تقدير المخاطر الاقتصادية والأمنية التي قد يتسبب فيها الالتزام بهذه الشروط، خصوصًا أن أحد التقديرات أشارت إلى أن الدولار ربما يرتفع إلى 25 جنيهًا في حالة تحرير سعر الصرف بشكل كامل.

عدد من المصادر الحكومية المصرية ودبلوماسيين غربيين على معرفة بملف التفاوض مع صندوق النقد، تحدثوا إلى موقع «مدى مصر» خلال الشهور الماضية واشترط معظمهم عدم الكشف عن هوياتهم.، فقالوا إن مصر اضطرت لقبول قرض أصغر، لكنها ستضطر مع هذا لقبول بعض الإجراءات التي يشترطها الصندوق، ومع تعمق الأزمة، واقتراب مواعيد السداد، يضيق هامش المناورة أكثر وأكثر.

وكان الإعلان الرسمي الوحيد عن القيمة المحتملة للقرض جاء من رئيس لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب، فخري الفقي، الذي تحدث عن قرض بقيمة حوالي سبعة مليارات دولار.

في حين يري خبراء اقتصاد أن مصر في حاجة الي 15-20 مليار دولار كي تتمكن من سداد قروض أقدم، لأن القرض المحدود لن يؤتي ثماره، إذ أن مصر لديها فجوة تمويلية تُقدر بـ 40-45 مليار دولار خلال عام واحد.

وحصول مصر على قرض محدود بقيمة خمسة مليارات دولار مُقسمة على ثلاث أو أربع سنوات يعني حصول مصر على مبلغ لا يتعدى 1.5 مليار دولار كل عام، وهو ما لن يؤثر في عجز الفجوة التمويلية.

وقالت رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي لمصر، سيلين آلار، بداية يوليو 2022، إن خبراء «الصندوق» والحكومة المصرية عقدوا، على مدار أسبوعين تقريبًا، مناقشات مثمرة حول السياسات والإصلاحات الاقتصادية المُزمع دعمها من خلال اتفاق على قرض جديد في ظل «تسهيل الصندوق الممدد EFF، وهذا هو نفس نوع التمويل الذي حصلت القاهرة بموجبه في 2016 على 12 مليار دولار كجزء من برنامج الإصلاح الاقتصادي.

الميزة في هذا النوع هو ارتفاع حجم القرض وطول مدة السداد، والتي قد تصل إلى عشر سنوات، كما أنها لا ترتبط بمشاريع محددة وإنما تدخل إلى الموازنة لكن هذا يشير إلى وجود مشكلات خطيرة متوسطة الأجل في ميزان المدفوعات بسبب مواطن ضعف هيكلية، بحسب تعريف موقع «النقد الدولي» لهذا النوع من القروض.

يعني هذا أن القرض المرتقب سيرتبط بطبيعته بتنفيذ مجموعة إصلاحات هيكلية أو رفع للدعم وأعباء على المصريين.

اخفاء حجم الديون

توسعت الحكومة في الاستدانة بشكل غير مسبوق خلال العقد الماضي، والمصدر الأساسي للمعلومات حول تفاصيل الدين الأجنبي يظهر في تقرير ربع سنوي يصدره البنك المركزي.

لكن تقريرًا أصدره البنك الدولي أوائل الشهر الجاري، كشف أن إجمالي الدين الخارجي وصل إلى مستويات غير مسبوقة مُسجلًا حوالي 158 مليار دولار بنهاية مارس 2022.

وسيكون على مصر أن تدفع مستحقات ديون خارجية بقيمة 33 مليار دولار في عام واحد من مارس الماضي حتى مارس القادم، بحسب التقرير (أي ما يعادل تقريبًا كل الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي يُقدر الآن بـ 33.3 مليار دولار).

وتشير آخر الجداول المتاحة حول التزامات الديون، والتي يعدها البنك الدولي إلى ان مصر ملزمة بسداد نحو 16 مليار دولار في الربع الثاني من العام الحالي (من بداية أبريل وحتى نهاية يونيو) يتبعها 12 مليار دولار في الربع الثالث، ثم حوالي ستة مليارات دولار في الربع الرابع، وأخيرًا أكثر من 13 مليار دولار في الربع الأول من العام القادم 2023.

وتعكس تلك الأرقام حاجة مصر إلى حوالي 18 مليار دولار حتى نهاية العام الجاري 2022، بافتراض سداد كامل الالتزامات عليها خلال الربع الثاني، الذي انتهى بالفعل في يونيو الماضي.

وقبل ستة أشهر، لم تكن الحكومة المصرية تعرف أنها ستضطر لدفع هذا المبلغ الكبير، ففي ديسمبر 2021 كانت تقديرات الحكومة للمستحقات عن الدين الخارجي خلال العام 2022 أنها لن تتجاوز حوالي 18 مليار دولار.

لكن هذا تغير مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا وسياسات التشديد النقدي من الفيدرالي الأمريكي منذ مطلع العام.

كما هرب 20 مليار دولار من «الأموال الساخنة» (أي الاستثمارات في أدوات الدين الحكومي)، ويُفترض أن تسدد مصر حوالي 100 مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة، وفقًا لتوقعات نقلتها وكالة رويترز.

وكانت الودائع الخليجية لدى البنك المركزي ساهمت طوال سنوات في دعم احتياطي النقد الأجنبي بشكل كبير، وتثبيت سعر العملة المحلية بين عامي 2013 و2014.

خلال تلك الفترة، تلقت الحكومة المصرية تدفقات مالية استثنائية كبيرة، بعدما تعهدت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت بتقديم ودائع قيمتها نحو 24 مليار دولار إلى مصر ومنح نقدية وعينية ومعونات للمشروعات.

وفي مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري الذي عُقد في مارس 2015، تعهدت دول مجلس التعاون الخليجي بتقديم 12.5 مليار دولار أخرى. لكن، بالرغم من تلك المساعدات، فإن احتياطيات النقد الأجنبي بدأت في التراجع منذ مطلع السنة المالية 2016، بسبب ارتفاع حجم مدفوعات خدمة الديون واستمرار ضخ البنك المركزي المصري للنقد الأجنبي من أجل تلبية احتياجات الاستيراد والطلب المتراكم على النقد الأجنبي، تزامنًا مع حادث تحطم الطائرة الروسية في مارس 2015، والذي كان بمثابة ضربة قوية إلى السياحة.

واستمر انخفاض حجم الودائع الخليجية تدريجيًا عبر الأعوام، ليصل حجم الودائع المتبقية لدى البنك المركزي إلى حوالي 15 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام الجاري.

وبحسب بيانات البنك المركزي، تشمل تلك الودائع 5.7 مليار دولار من الإمارات، و5.3 مليار دولار من السعودية، وأربعة مليارات دولار قدمتها الكويت.

ومن بين المليارات الأربعة التي ستردها مصر للكويت، حلّ موعد سداد نصفها في أبريل 2022 ومن المفترض أن تسدد مصر النصف الآخر في سبتمبر 2022، بالإضافة إلى قسطين من الودائع الإماراتية بقيمة حوالي 1.5 مليار دولار تستحق خلال العام الجاري 2022.

وقال مصدر حكومي مطلع على ملف العلاقات العربية لـ «مدى مصر» أن مصر تفاوض كل من الكويت والإمارات الآن لتأجيل سداد هذه المستحقات، لكنهم لم يتوصلوا إلى اتفاق حتى الآن.

وحتى الآن، لم يُعلن البنك المركزي عن خطته لسداد أقساط تلك الودائع، إذ لم يصدر حتى الآن أي تحديثات بخصوص التزاماته الخارجية منذ نهاية العام الماضي.

لكن، خلال مايو 2022 أعلن البنك المركزي عن انخفاض احتياطي النقد الأجنبي بقيمة 1.6 مليار دولار، أعزاها إلى سداد مدفوعات المديونية الخارجية، دون إشارة إلى سداد أقساط مستحقة إلى دول الخليج.

مخاطر التخلف عن السداد

وبسبب كل هذه الضغوط، تواجه مصر مخاطر التخلف عن السداد ما دفع وكالة «موديز»، أكبر الوكالات العاملة في مجال تقييم الديون والتي يعتمد عليها المستثمرون لتحديد أولويات استثماراتهم في هذا السوق، إلى تخفيض نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية في مايو 2022، مع التحذير من أن استمرار تراجع الاحتياطي النقدي يعرّض مصر لمخاطر خفض التصنيف الائتماني للمرة الأولى منذ 2013.

شروط القرض

قيمة القرض المطروحة الآن ستكون في حدود سبعة مليارات دولار، حسبما أوضح رئيس لجنة الخطة والموازنة، على أن يتم إنهاء الاتفاق بنهاية أغسطس أو سبتمبر المقبلين. لكن بأي شروط؟

أول هذه الشروط يتعلق بقيمة سعر صرف الجنيه مقابل الدولار وفي أبريل 2022، أشار مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، جهاد أزعور، إلى أن «مرونة أكبر في سعر الصرف» تمثل أحد «المحاور الأساسية» التي يدعمها الصندوق، وذلك في معرض حديثه عن المفاوضات المصرية على القرض الجديد.

ويخشى محافظ البنك المركزي السماح بتحرير سعر الجنيه بشكل كامل خوفًا من انخفاضه بشكل درامي قد يصل به إلى 25 جنيهًا مقابل الدولار وفي المقابل، يختلف وزير المالية، معتبرًا أن القرض سيمنح ثقة في الاقتصاد المصري، وأن الدولار سيبقى في حدود 20 جنيهًا.

نقطة أخرى أثارها الصندوق خلال المفاوضات تتعلق برفع القيود التي فرضها البنك المركزي على الاستيراد للحفاظ على أكبر قدر ممكن من العملات الأجنبية داخل مصر.

كما اشترط الصندوق كذلك منذ بداية المفاوضات تقليصًا كبيرًا لأشكال الدعم المختلفة التي تقدمها الحكومة، ومن بينها دعم الخبز.

لكن، بحسب مصادر مختلفة مطلعة على المناقشات، حذرت الأجهزة الأمنية من هذه الخطوة الآن في ظل الغلاء الكبير والمخاوف من أي تبعات اجتماعية وسياسية.

وبالفعل، تراجع النظام عن أي خطط لرفع الدعم عن الخبز واقترح على المصيلحي، وزير التموين، خفض وزن الرغيف مع الحفاظ على سعره عند خمسة قروش ولم تتوصل مصر إلى تصور مقبول من الصندوق حتى الآن فيما يتعلق بهذا الملف.

وأمام كل هذه الضغوط، يصبح أمام الحكومة المصرية خياران كلاهما مر: إما الاستجابة لضغوط الصندوق وتنفيذ المزيد من الإجراءات التقشفية ليتحمل المواطن مزيدًا من العبء، أو مواجهة أشباح التخلف عن الوفاء بالتزاماتها أو ربما يكون انتظار ما يمكن لـ «أصدقائنا في أوروبا» فعله خيارًا ثالثًا.

نشطاء قالوا: إن تصريحات السيسي عن دعم الفقراء وخروج أموال ومساعدات موجهة للشعب وتصريحات إعلاميي النظام ومطالبة المصريين بالتقشف و"كلو بيضة واحدة"، مؤشرات لانتظار المصريين إجراءات اقتصادية قاسية .. فهل هذه محاولة لاحتواء مسبق للغضب الشعبي في حال تطبيق تلك الإجراءات؟