العسكر و "معركة الهوية".. هل تنجح مصر دون عودة روحها الإسلامية؟
الخميس - 2 نوفمبر 2023
- السيسي لـ "واشنطن بوست": انقلبت على مرسي لأنه أراد إحياء المشروع الإسلامي!
- "الايكونوميست": السيسي يفعل هذا لتغيير بوصلة العدو من "الصهيوني" إلى "الاسلامي"
- مركز صهيوني: السيسي يُنمي الفرعونية بدعوي محاربة الاخوان لكنه يهدم هوية مصر
- نبيل فهمي لـ "دير شبيجل": لجأنا للجيش للتخلص من مرسي لأنه أراد تطبيق نظام إسلامي
- نزع الهوية الإسلامية لمصر في ديباجة دستور 2014 وإلغاء جميع المواد المتعلقة بالدين
- سبب ضياع الهوية تولية حكام منسلخون من الإسلام ومولعون بالحضارة الغربية
- غياب الهوية الإسلامية يهدد مصر بالتراجع الحضاري في كل المجالات ويفضي بها إلى التقسيم
إنسان للدرسات الإعلامية- خاص:
يوم 25 يونيو 2023 كتب وزير خارجية إيطاليا على حسابه على تويتر يقول: "هناك قاسم مشترك يربط كل أوروبا وهو المسيحية، من روما إلى برلين، ومن باريس إلى لشبونة، ومن مدريد إلى أثينا وحتى دول البلطيق سنجد دائما صليبا، نحن ندافع عن قيمنا وهويتنا وجذورنا".(تويتر)
ما قاله الوزير الإيطالي يعبر عن اعتزاز غربيين بعقيدتهم وهويتهم حتى ولو كانت فاسدة، لكنه يثير الاستغراب لأن بعض من ينتسبون لأصحاب العقيدة والهوية الإسلامية الصحيحة من الحكام العرب والمسلمين يفعلون المستحيل للتبرؤ من هويتهم والتمسح في الحضارة الغربية.
في المقابل، ركز الخطاب الإعلامي لانقلاب العسكر في مصر، منذ 3 يوليو 2013، على نقطة محورية اعتبرها من مبررات الانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة بقيادة الرئيس محمد مرسي (2012-2013)، وهي الادعاء بأن وجود مرسي وحكومته سوف يسلخ مصر من هويتها (دون تعريف وتحديد ما هية هذه الهوية)، ويحولها إلى "إمارة إسلامية"، وأن معركة الهوية من مبررات تحرك الجيش للانقلاب، مع تمرير رسالة دائمة بأن الشعب المصري أيد هذا التحرك؛ حفاظا على هويته!
هذا الحديث المتكرر عن "الهوية الإسلامية" كان كافيا لإرعاب الغرب والدولة الصهيونية، خاصة أن الرئيس الراحل محمد مرسي و تياره الاسلامي كانا مستندين على برنامج واضح تميزه هوية إسلامية أصيلة، بحكم انتماء الرئيس لجماعة الإخوان المسلمين، لذلك كان الضوء الأخضر لجنرالات الجيش المصري للانقلاب على هذه الهوية لا الرئيس، و هذا ما عبر عنه القادة الصهاينة بوضوح.
بل إن الباحث شادي حميد، في معهد بروكينغز، قال في دراسة بمجلة "فورين بوليسي"، 2 يوليو 2023، حول كواليس انقلاب السيسي والموقف الأمريكي منه: إن الموقف الأمريكي المعادي للرئيس مرسي ومن خلفه جماعة الإخوان المسلمون راجع لمعاناة عملية الدمقرطة وفق المفهوم الأمريكي من "المعضلة الإسلامية".
قال: المسؤولون الأمريكيون الذين كانوا يؤمنون بالديمقراطية وجدوا صعوبة في دعم الدول العربية، لأن الأحزاب الإسلامية كانت هي التي تفوز في انتخابات حرة وتفرض هوية إسلامية للبلاد بينما كان الغرب يتوقع فوز الليبراليين!!
وقد استقى "حميد" استنتاجاته من مقابلات مع 30 شخصية أمريكية، بمن فيهم مسؤولون كانوا مع أوباما في الغرفة أثناء القرارات الحاسمة عقب انقلاب السيسي.
لا للهوية الإسلامية
في أول حوار صحفي له مع صحيفة "واشنطن بوست"، يوم 3 أغسطس 2013، أي بعد مرور شهر واحد على انقلابه العسكري، أكد السيسي للصحفية "للي ويموث" أنه ما قام بالانقلاب وتولي الحكم إلا لإجهاض المشروع الإسلامي الذي أراده الرئيس محمد مرسي.
قال: "لو كان الانقلاب عليه لفشله، كنا صبرنا عليه لانتهاء مدته، ولكنه أراد إحياء المشروع الإسلامي والخلافة (الإمبراطورية الإسلامية)"، ما يبين دور السيسي في هدم هذه الهوية الإسلامية ومحاربتها عبر انقلابه وتذكير أمريكا والغرب – في حواره – أنه يفعل ذلك من أجل مصالحهم!
وقال السيسي– مبررا سبب الانقلاب على الرئيس محمد مرسي -: إن "معضلة مرسي أنه ذهب لبناء مصر مستندا على أيديولوجية استعادة بناء الامبراطورية الإسلامية"!.
ولم ينس السيسي اتهام أعضاء جماعة الإخوان المسلمين أنهم "مخلصون أكثر لمعتقداتهم الإسلامية أكثر من (إيمانهم) بمصر، قائلا: "الفكرة التي تجمعهم ليست قومية، وليست وطنية، إنها ليست إحساسًا بدولة"، في إشارة لإيمانهم بالهوية الإسلامية.
أيضا فضح وزير خارجية الانقلاب نبيل فهمي حقيقة الانقلاب وأنه ضد التوجه الاسلامي لحكم الرئيس مرسي، عندما قال في حوار أجراه مع مجلة "دير شبيجل" الألمانية، 5 أغسطس 2013: "إن الرئيس محمد مرسي أراد تطبيق نظام إسلامي في مصر وهو ما لم نكن لنسمح به ولذلك لجأنا للجيش للتخلص منه" !!.
وبعد عام كامل من الانقلاب وفي لقاء له مع فضائية "العربية" السعودية، ذات التوجه العلماني، قال السيسي نصا: "لن يكون في مصر قيادات دينية ولن أسمح بذلك، فأنا المسئول عن الأخلاق والقيم والمبادئ"، ثم أكمل قائلا: "والدين أيضا"، وهنا قاطعته المذيعة متسائلة: "والدين أيضا؟!"، فأكد السيسي فكرته: "وعن الدين أيضا".
ثم شرع في سلسلة خطوات لتحجيم الدين الإسلامي في حياة المصريين والسعي لتغيير ثوابت وهوية الأمة بدعاوي "تحديث الخطاب الديني" والتدخل أيضا في الفتاوي (الطلاق الشفوي وغيره).
يريدها فرعونية لا إسلامية
خلال افتتاحه "مجمع إصدارات الوثائق المؤمنة والذكية"، 7 أبريل 2021، انشغل المصريون بتصريحات قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي حول سد النهضة، ولم يلتفت أحد لخطورة ما قاله عن هذا المجمع، ولا فيديو الافتتاح.
فيديو الافتتاح أظهر صور بطاقات الهوية وجوزات السفر وغيرها الجديدة التي سيجري تغييرها بالكامل، ويتوسطها جميعا شعار زهرة اللوتس الفرعونية.
ما لفت أنظار متابعي الافتتاح لاحقا أن صور بطاقة الرقم القومي وجواز السفر المصري الجديد كانت أيضا بدون خانة الديانة، واقتصر الأمر على خانات الجنسية والوظيفة والحالة الاجتماعية باللغتين العربية والإنجليزية.
وخلال احتفالية نقل المومياوات الأخيرة، انتعشت حركة الدعوة للفرعونية وإلغاء خانة الديانة، أعقبها قرار تدريس الرموز الفرعونية والهيروغليفية لطلاب المرحلة الابتدائية.
ولأن معرفة الديانة أمر مهم في الزواج والطلاق تسجيل المواليد واستخراج شهادات الوفاة والميراث، ويترتب عليها أحكام شرعية وأوضاع اجتماعية، انتقد مصريون إقدام سلطة السيسي على تعديل أوراق هويتهم، دون قانون أو تعديل دستوري.
فسروا هذا بأنه يأتي في سياق خطوات تفريغ الشخصية المصرية من هويتها الإسلامية لصالح ما يسمى بالهوية "الفرعونية" التي تعاظم الحديث عنها مؤخرا، كبديلة لـ "قومية" عبد الناصر و"إسلامية" الإخوان، كما يزعم الانقلابيون.
وقد كشف هشام عوف مدير أحد الشركات العاملة في مجال الرقمنة، كشف لصحيفة "فيتو" الخاصة، 10 أبريل 2021، صحة وجود تصميم جديد لبطاقات الهوية بدون خانة الديانة.
قضية إلغاء خانة الديانة من بطاقات هوية المصريين مطروحة منذ فترات طويلة ويدعمها فريق من العلمانيين والطائفيين وحركات نسوية، وسبق أن سعي نائب يدعى إسماعيل نصر الدين لتقديم مشروع قانون بها للبرلمان عام 2018 لإلزام الحكومة المصرية بحذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومي.
وعقب انقلاب السيسي عام 2013 أطلق نشطاء حملة إلكترونية على موقع "فيسبوك" طالبوا فيها بحذف خانة الديانة من البطاقة بعنوان "حاجة تخصني"، ضمن حملة العداء ضد كل ما هو إسلامي بدعاوي محاربة الإخوان.
أيضا مع استمرار هدم السيسي الأبنية التاريخية الإسلامية بحجة بناء كبار علوية ظل يطمس هوية مصر، حتى أن مركز ديان التابع لجامعة تل أبيب نشر دراسة حول هدمه تاريخ مصر، وأكد أن السيسي يطمس الهوية العربية والإسلامية لصالح الهوية الفرعونية.
قال إن السيسي يُنمي الهوية الفرعونية بدعوي محاربة الاخوان لكنه يهدم هوية مصر الاسلامية، وحرص على إقامة مواكب فرعونية والظهور كأنه فرعون وضمن إبراز الهوية الفرعونية أنشأ متحف جديد بتكلفة 2 مليار جنيه رغم الفقر.
وقالت صحيفة الايكونوميست البريطانية إن السيسي يفعل هذا لتغيير بوصلة العدو من "الصهيوني" لـ "الاسلامي".
هدم الثوابت بـ "تجديد الخطاب الديني" والمناهج الدراسية
وضمن ضرب هوية مصر يسعي السيسي لهدم الثوابت باسم "تجديد الخطاب الديني"، كما سيطرت مخابراته على الدراما لتتحكم في تقديم هوية مزيفة لمصر، حيث أنفق مئات الملايين على مسلسلات تستهدف هدم الهوية بتشوية الاسلاميين
وكان الإسرائيلي تسفي برئيل كتب في صحيفة هآرتس، 28 فبراير 2021، يقول: إن عبد الفتاح السيسي أشعل عاصفة نارية عندما أمر بشطب آيات من القرآن وأحاديث من الكتب المدرسية، وأن محاولات السيسي "لتجديد الخطاب الديني" غير مرحب بها في مصر، البلد الذي أوصل الإخوان المسلمين إلى السلطة.
أوضح أن الخبراء في القانون الديني وقادة جامعة الأزهر المشهورة، الذين تم تعيينهم لفحص المناهج والثقافة والإعلام المتعلقة بالدين وتوافقها مع الشريعة الإسلامية، يعارضون بشدة توجيهات السيسي ويحاربون "أجندة السيسي" لتغيير مكانة الدين والهوية.
وفي عام 2015، أمر السيسي بإزالة مناهج وحتى كتب بأكملها من المناهج الدراسية بعد أن وُصفت بأنها تحرض على العنف أو التطرف الديني
وكان قد صدر تصريح غامض من عبد الفتاح السيسي في مداخلة هاتفية على فضائية «صدى البلد»، 23 أغسطس 2021، حول ولادة المسلمين بالبطاقة والوراثة، وأنه "يجب أن نعيد صياغة فهمنا للمعتقد الذي نسير عليه".
السيسي قال: «كلنا اتولدنا المسلم وغير مسلم بالبطاقة والوراثة، لكن هل حد يعرف إنه يجب أن نعيد صياغة فهمنا للمعتقد الذي نسير عليه؟".
وتابع: "كنا صغريين مش عارفين طب لما كبرنا هل فكرت ولا خايف تفكر في المعتقد الذي تسير عليه صح ولا غلط؟ هل فكرت السير في مسيرة البحث عن المسار حتى الوصول إلى الحقيقة؟".(مقطع من يوتيوب)
وقبل الجدل حول إلغاء خانة الديانة، أعلن اللواء كمال عامر، رئيس المخابرات الحربية السابق ورئيس لجنة الدفاع والأمن بمجلس النواب، في 26 فبراير 2021، وقبل وفاته بفيروس كورونا، موافقة وزارة التعليم على إدراج مادة جديدة تجمع كل الأديان في المناهج المصرية.
هذه المادة هي "القيم الدينية المشتركة بين الديانات السماوية"، التي تعني تدريس "اليهودية" بجانب الإسلام والمسيحية للطلاب في كتاب تعليمي واحد.
"خبراء تربويون اعتبروا مادة القيم المشتركة" جزء من تحولات خطيرة تجري في ملف التعليم بمصر، وعلمنة مصر بدعاوى محاربة التطرف "الإسلامي" وتطوير الخطاب الديني.
سبق هذا تلميح نائب وزير التعليم رضا حجازي (وزير التعليم الحالي)، بأن هناك توجيهات رسمية بحذف الآيات القرآنية من كل المناهج وقصرها على كتاب الدين الإسلامي فقط، وقال، خلال اجتماع يوم 14 فبراير 2021 مع لجنة الدفاع والأمن القومي: "نظرا لأهميتها، سيتم إدراج هذه المادة (القيم المشتركة) ضمن المجموع الكلي للطلاب".
وفي أبريل 2021، عاد الجدل حول الغاء خانة الديانة بعد تسريب صور لبطاقة الرقم القومي وجواز السفر المصري الجديد بدون خانة الديانة.
لكن اللواء يحيى الكدواني، عضو لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب، نفي مناقشة المجلس لأي قانون مقدم، سواء من الحكومة أو أحد النواب، بخصوص حذف خانة الديانة من البطاقة الشخصية.
دستور الانقلاب يضيع هوية مصر الاسلامية
وعقب الانقلاب تم طبخ دستور مصري جديد، كانت لجنته مكونة من كل الاطياف المعادية للتيار الإسلامي، وأخفى الهوية الاسلامية لمصر تماما، وأعطي امتيازات لا حصر لها للعسكر والقضاة وأجهزة القمع، وسمح بالانحلال باسم الابداع، وسمح بظهور كل الفرق المعادية للدين في ظل النص على أن "حرية الاعتقاد مطلقة" في المادة رقم 64 ، ما سمح بظهور أحزاب أو مجموعات للبهائيين او عبدة الشيطان أو غيرهم، وحرية الابداع في المادة (67)، وعدم إمكانية وقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة !
بعض المواد التي تم الغاؤها من دستور 2012 لوضع دستور انقلابي تثير تساؤلات حول: هل الهدف محاربة الاخوان أم الهوية الاسلامية؟، مثل حذف المواد التي تحض على رعاية الاخلاق والآداب، وحماية الاديان والرسل من التعدي عليهم بالسب والقذف، وإحياء نظام الوقف الخيري، ما يعني ضمنا السماح بازدراء الاديان وسب الرسل والأنبياء، ومنع خلق موارد مالية شرعية من (الوقف الخيري) لتمويل المشروعات.
فالمادة 11 من دستور 2012 الملغاة في دستور 2013 تنص على أن "الدولة ترعى الاخلاق والآداب والنظام العام والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية والحقائق العلمية والثقافة العربية والتراث التاريخي والحضاري للشعب".
والمادة 12 الملغاة تقضى بأن "الدولة تحمى المقومات الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع وتعمل على تعريب التعليم والعلوم والمعارف"، والمادة 44 الملغاة تحظر "الاساءة او التعريض بالرسل والأنبياء كافة"، والمادة 25 تشير إلى "التزام الدولة بإحياء نظام الوقف الخيري وتشجيعه"، مع أن هذه المواد- التي تم إلغاؤها- تؤشر لهوية الدولة الاسلامية ولا علاقة لها بالعداء أو الخلاف مع الاخوان.
أيضا تم نزع الهوية الإسلامية لمصر في ديباجة دستور الانقلاب الجديد لعام 2014 وهو ما ظهر عندما استبدلوا في الديباجة "مواثيق الأمم المتحدة" بـ "الإسلام" أو الشريعة الاسلامية، وخلت الديباجة من أي جملة تعبر عن الهوية الاسلامية لمصر.
ولم ترد آيه قرانيه واحدة أو حديث شريف في الديباجة تدلل على هوية الدولة الاسلامية، وبالمقابل تم النص على أن: "المصريون قدموا آلاف الشهداء دفاعًا عن كنيسة السيد المسيح".
أيضا تم النص على أن حرية الاعتقاد مطلقة وعدم تقييدها، وتم تمرير الصياغة بطريقة ماكرة ما قد يوفر الغطاء الدستوري للجماعات الضالة والمنحرفة مثل البهائيين وعبدة الشيطان (مادة 64).
وقال الدكتور والمفكر الإسلامي الراحل محمد عمارة بعد وضع الدستور: إن الدستور الجديد يعسكر الدولة ويمحو الهوية الاسلامية، وأكد أن أخطر ما في التعديلات هو: "حذف النص على أن مصر جزء من الأمة الإسلامية مع الأمة العربية وحذف أخذ رأي هيئة كبار العلماء في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية".
كما حذفوا التفسير الذي وضعه الأزهر لمبادئ الشريعة الإسلامية وحذفوا المادة التي كانت تحظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة وأنهى المفكر الكبير تعليقه قائلًا: "هذه هي أخطر ما في التعديلات التي تناولت إلغاء الهوية الإسلامية لمصر وعسكرة الدولة".
استهداف الهوية الاسلامية
وظلت قضية هوية مصر الحضارية والدينية باهتة غير واضحة في العصور السابقة، منذ انفصال مصر عن الدولة العثمانية (دولة الخلافة الاسلامية)، في العهود الملكية والجمهورية وذلك برغم النص على أن الاسلام دين الدولة والشريعة مصدر التشريع، إلى أن أدخل الرئيس الراحل أنور السادات تعديلا على المادة الثانية من الدستور تؤكد أن (الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع).
وبرغم النص على أن مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، فلم يطبق هذا فعليا في عشرات القوانين المطبقة ولا في الواقع، وعندما كان محامون يرفعون قضايا أمام المحاكم تستند لهذه المادة كانت قضاياهم تدفن في أروقة الجهات الحكومية القضائية.
وما إن أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تجميد العمل بالدستور (عقب ثورة يناير 2011) وتشكيل لجنة لإعادة تعديله برئاسة المستشار الراحل طارق البشري، حتي بدأ صراع بين الداعين للحفاظ على هوية مصر الاسلامية وبين تيار مسيحي علماني مدعوم من أقباط الخارج يطالب بإلغاء المادة الثانية التي تنص على أن (الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع) واستبدالها بتشريعات غربية تتحدث عن أن مصدر التشريع هو المواثيق الدولية (التي لا تعترف بالطبع بشريعة الإسلام) !.
وتقدمت مجموعة من الشخصيات القبطية بمذكرة إلى نائب الرئيس السابق، عمر سليمان، تطلب إحداث تعديلات دستورية" تؤكد على علمانية الدولة، وسعت لتوصيل نفس المطالب لقيادة الجيش.
وبالمقابل نشطت التيارات الإسلامية وقامت بمظاهرات في الشوارع وعقدت العديد من المؤتمرات في عدة مدن مصرية تحذر من إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية وتطالب بتفعيل هذه الشريعة على اعتبار أنه كان منصوصا عليها في الدستور ولكنها غير مفعله في العديد من القوانين المصرية.
وقد أدلي الأزهر الشريف بدلوه – في أول بيان يصدره بعد تنحى الرئيس مبارك عن الحكم وتولي الجيش السلطة – عندما أكد أنه (يطمئن تماماً إلى أن هوية الأمة وروحها متجذرة في ضمير كل منهم (أعضاء المجلس العسكري)، وأن مبادئ الحرية والعدالة والمساواة والمشاركة الشعبية الحرة هي القيم الهادية لنا جميعا في هذه الظروف الدقيقة".
وشدد الأزهر، فيما يبدو كرسالة طمأنه للأقباط، على أن "الشريعة الاسلامية تحمي عقائد الآخرين ولا تضرهم".
ثم جاءت تصريحات شيخ الأزهر ،خلال فترة ثورة يناير 2011، لتحسم الجدل تماما عندما قال إن: (المادة الثانية من الدستور ليست مطروحة للتغيير أو التحديث، والاقتراب منها بمثابة محاولة لنشر الفتنة، فالمادة الثانية من الدستور هي من ثوابت الدولة والأمة والحديث في تلك المادة هو مصادرة للديمقراطية التي نأمل الوصول إليها ومصادرة على الحريات"
أثر ضياع الهوية
الهوية الإسلامية هي الأساس لعودة نهضة الأمة، لأن العالم الإسلامي لديه تربة إسلامية قوامها تاريخ أمة عمرها أكثر من 1400 عام. وفي إحدى محاضراته قال الشيخ محمد الغزالي-رحمه الله- "إن العرب بلا إسلام لاقيمة لهم".
ومنذ أكثر من قرن والأمة تمر بحالة من الهوان والضعف الشديد الذي خيم على قلوب وعقول كثير من المسلمين في شتى المجالات، بسبب ضياع الهوية الإسلامية، خاصة بعد إلغاء الخلافة، حتى أنك لو سألت في أي بلد عربي أو إسلامي عن التاريخ الهجري لن تجد أحد يعرف في أي يوم نحن، فضلا عن التشبه بالعادات الغربية.
والحقيقة أن إحضار بذور غربية كالهويات العلمانية أو القومية ومحاولة زرعها في تربتنا أدي لأن يخرج لنا دائماً لنا نبتات مشوهة وذابلة لا تستطيع العيش في هذه التربة، كما يقول الكاتب محمد عدنان شيط في موقع "الجزيرة" 6 يناير 2017.
يؤكد أن "الهوية الإسلامية هي الوحيدة التي جمعت هذه الأعراق والأخلاط من البشر تحت راية واحدة على مدار مئات السنين الماضية، لذا نرى الآن آثار ضياع هذه الهوية على مجتمعاتنا وكيف أدت إما الى انتشار مظاهر التمييع والانسلاخ والتبرؤ من هذه الأمة وتاريخها، وإما الى انتشار مظاهر الغلو والتطرف وخصوصا بين فئات الشباب.
وما دمنا لم نعد لهويتنا الإسلامية الأصيلة سنبقى تابعين لهويات الأمم الأخرى ومتعلقين بهم لا نستطيع الانعتاق عنهم."
وتشير دراسة لموقع "ناصحون" حول "خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية" أنه إذا غابت الأمة عن هويتها، أو غُيّبت عنها، أو تنكرت حينا لها، وإذا ضلت عنها أو تذبذبت في شأنها، وصارعتها هويات مصطنعة، فحينها تفقد التماسك الاجتماعي وتفقد وجودها الممثل لمنهجها ويُحال بينها وبين القيام بوظيفتها، الوظيفة التي أخرجها الله تعالى من أجلها.
تؤكد الدراسة أنه "إذا ضلت أمة عن هويتها غاب الوعاء الحافظ للتنمية ولم تفلح معها مشاريع تنموية فاشلة، لأن تلك المشاريع عندئذ تكون "وَهْمٌ مصطنع" إذ إن الأمة الغائبة عن ذاتها لا تفلح معها المشاريع قبل أن تعود لهويتها أولا.
وتبين الدراسة أنه "عند غياب الهوية الإسلامية في بلد مسلم يحدث اغتراب (فراغ سياسي وفقدان انتماء) لضعف الاجتماع على غيرها من الهويات المستعارة لهذه الأمة وعدم قدرة هذه الهويات على ملء الفراغ الذي تركته الهوية الإسلامية.
وهذا يؤدي إلى:
(أولا): حكم الأراذل، بمعني أنه عند حدوث الاغتراب يفقد شرفاء الأمة وحكماؤها سيطرتهم على الأمة، لأن المجتمع يصبح همجًا رعاعًا أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح نتيجة تعدد محاور الاستقطاب في الأمة فلا تجتمع الأمة حول أهل الشرف والمكانة والرأي الراجح. بل قد تجتمع حول بعض المضللين والدجالين وأراذل الناس أو يتبعثر الناس حولهم.
(ثانيا): التبعية للخارج، حيث ينتج عن غياب الهوية قيام دول أو دويلات صغيرة نتيجة التفتيت والانفصال عن مشروعها الحضاري الإسلامي الكبير. وهذا يؤدي إلى الدخول في التبعية للكيانات الكبيرة لملء الفراغ السياسي وحمايتها داخلياً وخارجياً لعدم وجود الرصيد الشعبي الناتج عن ضعف القواعد الشعبية وذبذبة ولاءها وقبولها لكل هوية حيث لا هوية لها.
(ثالثا): الفساد، ويتولد بالضرورة مع وجود التبعية وحكم الأراذل، كما أن انتشار الفساد يدعم حكم الأراذل ويمهد للتبعية، وهذا يفسر الدائرة الخبيثة النكدة التي تحياها الأمة الإسلامية والتي تجمع بين النواتج الثلاث.
لذلك قال بعض السلف الصالح من هذه الأمة: "لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
ويري محللون أن جانبا مهما من أسباب ضياع الهوية هو تولية حكام منسلخون من الهوية الإسلامية ومولعون بالهوية والحضارة الغربية بحكم تعليمهم في جامعات الغرب وتولي أجهزة استخبارات أجنبية رعايتهم على أعينها لضمان تبعية هذه البلدان وعدم استقلالها في قرارها أو تنميتها أو الاحتكام لقيمها الإسلامية.
يشيرون لما تكشف عن العديد من حكام مصر السابقين والحاليين من تبعيتهم للغرب وتربيتهم على عينه وتحكم دول مثل أمريكا فيما يحكم مصر بحيث يخدم مصالح الغرب ويبتعد بالبلاد عن هويتها الإسلامية.
أكدوا أنه حين يتولى حاكم مسلم ذو أصول وخلفية إسلامية غصبا عن الغرب، كما حدث في الحالة المصرية عقب ثورة يناير وفاز مرشح جماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي، وضعوا له العقبات وشاركوا في المؤامرات ضده لإسقاطه خشية أن تتأثر مصالحهم، بعدما أمتلكت مصر قرارها لأول مرة ولم تعد ترتهن للغرب.
أشاروا للدعم الذي حصل عليه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي وتلكؤ أمريكا في وصف ما جري بأنه "انقلاب"، ثم تكشف تواصل وزير دفاعها مع عبد الفتاح السيسي قبل وبعد الانقلاب، وتكشف أيضا اللقاءات السرية التي بلغت ستة لقاءات بين السيسي ورئيس الوزراء الصهيوني، بعضها في سيناء قبل الانقلاب وبعده، والهدف منع بقاء الإسلاميين ومشروعهم للهوية في السلطة.
أخيرا.. في التاريخ الحديث، وقبل أن يسعي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورفاقه في حزب العدالة والتنمية في تركيا لإخراج تركيا من ديونها وفسادها ويحققوا أكبر قفزة في تاريخ البلاد جعلتها من الدول الكبرى صاحبة النفوذ في العالم، كان أنصار الأحزاب العلمانية الذين حكموا تركيا قد نزلوا بها للحضيض بدعاوي الخروج من عباءة الهوية الاسلامية والانتساب لأوروبا، وأثبتت التجربة أن الثبات على الهوية هو الذي حقق لتركيا التقدم.
وبعدما كانت مجرد صلاة مسئول في الدولة كافية لعزله، وحجاب فتاة متفوقة كافيا لطردها من صفوف الأوائل في المدارس والجامعات، أصبح أفضل الوزيرات والسفيرات والخبيرات في تركيا الحديثة من المحجبات.
لهذا، فإن ضياع الهوية مرتبط بالانهيار والضياع في تحديد بوصلة الدول العربية والإسلامية، وخاصة مصر، لأن أي أمة تريد النهضة والرقي لا بد أن تستند في هذا الأمر الى هويتها، وهوية مصر بطبيعة الحال إسلامية، فلن تنجح بدونها.