هل يدمر ترامب قوة أمريكا الناعمة؟!

الاثنين - 3 مارس 2025

- أ. د. سليمان صالح
( أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة )

د . سليمان صالح

أعتقد أن أكثر من يشعر بالحزن بسبب تهديدات ترامب؛ هو عالم السياسة الأمريكي الكبير "جوزيف ناي" وتلاميذه من الباحثين الليبراليين، الذين حاولوا لسنوات طويلة إقناع أمريكا بأنها تستطيع تحقيق أهداف سياستها الخارجية بدون استخدام قوتها الصلبة.

وتعتبر نظرية "القوة الناعمة" أهم إنجازات جوزيف ناي العلمية، والتي تقوم علي أن جاذبية سياسات الدولة تدفع الناس لتأييدها دون استخدام القهر أو الإجبار، وبدون استخدام المعونات.

سياسة الأب الحكيم

لكي يقرب المعني إلي الأذهان، يضرب "ناي" مثالا بسيطا علي مستوي الأسرة، فالأب الحكيم يعرف أن قوته تكمن في أن يقدم لأطفاله نموذجا للإلتزام بالقيم الأخلاقية الصحيحة؛ فهذا النموذج هو الذي يستمر طويلا كمصدر للقوة، ولدفعهم لتحقيق ما يريده دون استخدام العصا والجزرة.

وهذا المثال ينطبق علي الدول؛ حيث ظل القادة السياسيون زمنا طويلا يفهمون أن القوة تتمثل في قدرتهم علي وضع الأجندة، وتحديد إطار المناقشة، وفرض الأحكام التي يجب أن يخضع الجميع لها، لكن لم يدركوا أنهم يستطيعون تحقيق ما يريدونه بدون استخدام القوة الصلبة.. لذلك تستطيع الولايات المتحدة أن تدفع الآخرين لتحقيق أهدافها؛ عندما تمثل القيم الأخلاقية والديموقراطية التي يمكن أن يتبعها العالم!.

الجاذبية أساس القوة الناعمة

يري "ناي" أن القوة الناعمة للدولة تأتي من ثلاثة مصادر هي: الثقافة عندما تكون جذابة للآخرين؛ والقيم السياسية مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان، وعندما تكون سياسة الدولة شرعية؛ حيث يتم تشكيلها علي أسس التواضع والوعي بمصالح الآخرين، وكيف تتصرف الحكومة في الداخل بحماية حرية الصحافة والحريات العامة.

كما تأتي من تصرفات الدولة في المنظمات الدولية عندما تستشير الآخرين، وتحرص علي العلاقات التي تحقق المصالح المشتركة، وتشجيع التنمية وحقوق الإنسان؛ حيث يمكن أن يؤثر علي الدول لتتبعها كمثال.

ويري "ناي" أنه في عصر ثورة الاتصال والمعلومات العالمية، فإن النصر لا يعتمد علي قوة الجيوش، وكسب الحرب العسكرية، ولكنه يعتمد علي انتصار الرواية، واقتناع الشعوب بقصة الشعب وشرعية موقفه وحقوقه والتزامه بالأخلاق.

النفاق وسقوط القوة الناعمة

يري "ناي" أن السياسات الداخلية والخارجية التي تتسم بالنفاق والغطرسة، ولا تحترم حقوق الآخرين وآرائهم، وتتبني مفهوما ضيقا للمصالح القومية تؤدي إلي تناقص قوة الدولة الناعمة.

علي سبيل المثال، أوضحت استطلاعات الرأي العام بعد غزو العراق تدهور جاذبية الولايات المتحدة، وكان ذلك نتيجة اسراف بوش في استخدام القوة الصلبة، مما أدي إلي تزايد العداء للولايات المتحدة، وكراهية الشعوب لسياساتها.

كما عانت الولايات المتحدة من تدهور قوتها الناعمة في السبعينيات؛ حيث تزايد رفض الشعوب للحرب الأمريكية في فيتنام، وانتشار الصور عن المذابح التي ارتكبتها القوات الأمريكية، مما أدي إلي عدم شعبية سياسات الولايات المتحدة علي المستوي العالمي.

وعملت الولايات المتحدة لاستعادة قوتها الناعمة بعد حرب فيتنام، وتمكنت من تحقيق ذلك في عهد إدارة كارتر، التي حرصت علي تقديم أمريكا للعالم باعتبارها الدولة الديموقراطية صانعة السلام.

الديموقراطية والانفتاح علي النقد

يري "ناي" أن الديموقراطية الأمريكية أعظم مصادر قوة أمريكا الناعمة، ومن أهم أسس هذه الديموقراطية الانفتاح علي النقد، ونشر الآراء المعارضة التي تسهم في تعديل السياسات الخاطئة!.

لكن هل مازالت الديموقراطية الأمريكية تتمتع بالجاذبية؟ يمكن أن نجد إجابة مبدعة علي هذا السؤال في دراسة "ستيفن ليفتسكي" و"لوكان وي"، التي نشرتها مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs)؛ التي كانت أهم نتائجها أن الديموقراطية الأمريكية تتعرض للانهيار، ولم تعد تنطبق عليها شروط الديموقراطية الليبرالية، مثل الانتخابات الحرة العادلة وحماية الحريات المدنية.

كما أن فوز "ترامب" سيؤدي إلي تزايد قوة النظم الديكتاتورية في العالم، والتي تقوم بمنع المعارضة، وقتل المعارضين ونفيهم؛ وسوف تقلد تلك النظم إدارة ترامب التي تنتهك الحريات المدنية، كما أن ترامب يمكن أن يصدر أوامره للجيش  بإطلاق الرصاص علي المتظاهرين، وسيقوم بأكبر عملية ترحيل في تاريخ أمريكا تستهدف الملايين من البشر.

أمريكا تفقد قوتها الناعمة

في مقال كتبه جوزيف ناي، في 6 فبراير/شباط 2018، توقع أن تؤدي رئاسة ترامب إلي تدهور القوة الناعمة الأمريكية، وبنى توقعه علي نتائج استطلاعات الرأي التي أجراها معهد "جالوب" ومركز "بيو" في 134 دولة؛ التي أوضحت أن 30% فقط يؤيدون سياسة الولايات المتحدة، وهذا يعني أن أمريكا خسرت نسبة 20% من المؤيدين خلال فترة حكم ترامب الأولي.

ويري جوزيف ناي أن ترامب يدعي أنه سيجعل أمريكا عظيمة مرة أخري، لكن الحقائق توضح أنه يفعل العكس؛ فأمريكا فقدت مصداقيتها؛ فطبقا لاستطلاع أجراه مركز "بيو" في 33 دولة يثق في ترامب 29% فقط، وأوضح الاستطلاع أن رئيس الصين أكثر مصداقية منه.

كما أن إدارة ترامب لا تهتم بالدبلوماسية العامة، وتعتمد فقط علي علاقاتها بالحكومات التي تفرض عليها شروطها وأوامرها دون الاهتمام بالشعوب.

وفشلت أمريكا في استعادة قوتها

يري "ترامب" أنه ليس هناك أهمية للقوة الناعمة؛ طالما أنه يستطيع أن يفرض علي حكومات الدول أن تفعل ما يريده، لكن جوزيف ناي يري أن أمريكا أكبر من ترامب، وأنها تستطيع أن تستعيد قوتها الناعمة بعد سقوط ترامب، ويستدل علي ذلك بأن المظاهرات ضد حرب فيتنام رفعت شعارا هو أن أمريكا سوف تتغلب علي مرض استخدام القوة، وهذا حدث بالفعل؛ حيث تمكنت أمريكا من استعادة قوتها الناعمة في عهد كارتر.

لكن توقع "ناي" فشل، فهاهو ترامب يعود إلي الحكم، ويتعامل مع دول العالم بغطرسة، ويستخدم قوته الصلبة، ويهدد بفتح أبواب الجحيم، ويمكن أن يشعل نيران حرب عالمية، وسيدفع شعوب العالم إلي كراهية أمريكا التي تخطط لإعادة الاستعمار القديم القائم علي الاحتلال العسكري.