مصر| هل ينتهي حجب المواقع الإعلامية برحيل أكبر شركة تجسس؟
الثلاثاء - 8 أكتوبر 2024
تقرير- إنسان للإعلام:
عقب الانقلاب العسكري في مصر، يوليو 2013، استثمر جنرالات الانقلاب ملايين الدولارات في أمرين: الأول شركات الدعاية والإعلام وتلميع سلطة الانقلاب، والثاني: شركات التجسس ومراقبة الانترنت؛ لحجب المواقع الإعلامية والحقوقية أو التجسس على المصريين ومراقبتهم ومنعهم من التعبير عن آرائهم.
وبعد حجب العديد من المواقع الإخبارية واعتقال مصريين وتعذيبهم لمجرد التعبير عن آرائهم، بدأت منظمات حقوقية تفضح أدوار هذه الشركات، وأغلبها أوروبية، ما أحرج دول تدعي حماية حقوق الإنسان، مثل أمريكا، ففرضت عقوبات على بعض هذه الشركات بحجة الديمقراطية في حين أنها فعلت ذلك من أجل "البيزنس" وتشجيع شركات التكنولوجيا الأمريكية.
وعندما حذت دول أخرى حذو أمريكا وعاقبت بعض هذه الشركات، أعلن عدد منها التوبة وخرجت من مصر فعليا، ومن دول قمعية أخري، حيث كانت تورد لها أجهزة تنصت وتعقُّب وحجب مواقع.
أبرز هذه الشركات كانت شركة "ساندفين" Sandvine الكندية، التي تبيع برامج مراقبة، تسمح للأنظمة الاستبدادية باختراق الإنترنت والتجسس على مواطنيها لقمعهم، وأعلنت أنها ستوقف تعاملها مع 56 دولة "غير ديمقراطية" وتغادرها.
الشركة، المتهمة بالتربح على حساب تعذيب وقمع مواطنين في عدة أنظمة قمعية، زعمت أن خططها لوقف التعامل مع الدول غير الديمقراطية، هدفه عدم السماح بإساءة استخدام تكنولوجيا الشركة، وأنها ستركز على التعامل مع الدول الديمقراطية فقط.
وذكرت أن من بين هذه الدول "غير الديمقراطية" التي ستغادرها، مصر، كجزء من "عملية إصلاح شاملة" للشركة.
ولكي تثبت حسن نيتها، أعلنت تنحي الرئيس التنفيذي، ليندون كانتور، واستبداله بـ "مدير يركز على حقوق الإنسان"، وفق زعمها، والتبرع بـ واحد بالمئة من أرباحها المستقبلية لمنظمات حماية حرية الإنترنت ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان.
والأرجح أن الشركة واجهت أزمة اقتصادية، بعد تراجع دول عن التعاقد معها، كما فرضت وزارة التجارة الأمريكية عقوبات عليها في فبراير 2024 بادعاء "بيع أجهزة مراقبة الإنترنت وحجب المواقع الإلكترونية للحكومة المصرية"، مع أن هناك شركات أخري بعضها أمريكية تورد لنظام السيسي نفس الأجهزة القمعية، لكن فضح منظمات حقوقية لدورها في القمع الذي يمارسه النظام المصري شوه صورتها، فلجأت إلى تغيير سياستها لأسباب اقتصادية، لا إنسانية أو حقوقية.
وسبق أن علقت حكومة إيطاليا، في مارس 2016، رخصة لشركة أخرى هي "هاكينج تيم" Hacking Team الإيطالية؛ لتصديرها برمجيات تجسس إلى خارج الاتحاد اﻷوروبي، وذلك بعد تعاملاتها مع عدد من الدول التي تنتهك حقوق اﻹنسان، ومن بينها مصر.
جرائم إعلامية في مصر
لم تحدد شركة "ساندفاين" الدول الـ 56، التي غادرتها أو تستعد لوقف العمل معه، لكن الغريب أنها اختصت بالذكر "مصر"، حيث وعدت بوقف التعامل معها والرحيل منها بحلول نهاية مارس 2025، دون تحديد مصير ما باعته لها من أجهزة تجسس ومراقبة على المصريين.
نشرت الشركة بيانًا، يوم 19 سبتمبر 2024، للتبرؤ من جرائمها، عبر استخدام الحكومة المصرية برامجها لحجب مواقع وصحف ومنظمات حقوقية، وزعمت أنها تريد الآن أن تكون "رائدة في مجال الحلول التكنولوجية للديمقراطيات".
واشتهرت هذه الشركة ببيع برمجيات لمصر تحجب مواقع إعلامية وحسابات إعلاميين، وتراقب الانترنت لصالح جهات أمنية وعسكرية مصرية، ففي عام 2020 تم الكشف عن استخدام السلطات المصرية لتكنولوجيا أنتجتها شركة (ساندفين) لحجب المواقع الإلكترونية.
وفي 26 سبتمبر 2023 ذكر موقع "بلومبيرغ" أن شركة "ساندفين" حققت مبيعات تزيد قيمتها على 30 مليون دولار في مصر، لجهات مختلفة منها الهيئة القومية لتنظيم الاتصالات، و"فودافون" مصر، ووزارة الدفاع.
وأوضح أن إحدى أكبر مبيعات الشركة على الإطلاق كانت صفقة بقيمة إجمالية تزيد على 10 ملايين دولار أبرمتها عام 2020 مع "الشركة المصرية للاتصالات" الحكومية، وفقا للوثائق.
وكمثال لما تفعله مع معارضين مصريين، تم اتهام الشركة بمحاولة اختراق هاتف البرلماني السابق، والمسجون حاليا، أحمد طنطاوي، خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية عام 2023، وفقا لـ "بلومبيرغ".
وتبين أنها تورطت مع إحدى شركات الاتصالات المصرية في جريمة التنصت على هاتف "طنطاوي"، حيث تم الاختراق من خلال وضع جهاز تصنعه شركة ساندفين، يحقن البرمجيات الخبيثة التي اشترتها الحكومة المصرية من شركة NSO الاسرائيلية لاختراق هاتف طنطاوي.
وكان معمل "سيتيزن لاب" في جامعة تورنتو قام بتحقيق موسع حول تجسس جهات أمنية مصرية على جهاز آيفون يملكه "طنطاوي" في 14 سبتمبر 2023، بسلسلة هجمات باستخدام برمجية تجسس بريداتور(Predator)، التي تستطيع التقاط صور الشاشة ومراقبة مُدخلات مستخدم "الموبايل" إلى جانب تشغيل الميكروفون والكاميرا.
كما تُمكن هذه البرمجية، مهاجمي الهاتف من مراقبة كل الأنشطة على الجهاز وبالقرب منه، مثل المحادثات التي تُجرى في الغرفة، بل وتسمح بتسجيل رسائل المحادثات أثناء إرسالها واستقبالها، بما فيها الرسائل عبر تطبيقات مراسلة مشفرة أو بها خاصية الاختفاء مثل "واتس آب" و"تليجرام"، بالإضافة إلى مكالمات الإنترنت والتليفون المشفرة.
وبجانب تزويد "فودافون مصر" بمعدات "فحص الحزم العميق (DPI)"، قامت الشركة أيضا بين عامي 2020 و2021 بتدريب موظفي الاتصالات المصريين على كيفية استخدام هذه التكنولوجيا (في التجسس على العملاء)، وفق وثائق الشركة الداخلية.
وأكد باحثون من مؤسسة "كوريوم ميديا"، وهي منظمة للحقوق الرقمية، في سبتمبر 2020، أن تقنيات "ساندفين" قد تم استخدامها لمساعدة الحكومة المصرية في حجب أكثر من 600 موقع إلكتروني، بما في ذلك 100 موقع إخباري وإعلامي.
ديمقراطية أم "بيزنس"؟
في البيان الذي اصدرته "ساندفين"، زعمت أنها استندت في قرارها بالانسحاب من مصر وعشرات الدول القمعية إلى مراجعة عملياتها على أساس "مؤشر الديمقراطية"، الصادر في فبراير عام 2023 لوحدة الاستخبارات الاقتصادية، والذي يصنف البلدان على أساس "نوع النظام".
وقالت إنها اتخذت هذا القرار "بالتشاور مع وزارتي التجارة والخارجية الأمريكيتين وأعضاء رئيسيين آخرين في الحكومة الأمريكية".
وفي 26 فبراير 2024، اتهمت وزارة التجارة الأمريكية اتهمت شركة ساندفين ببيع منتجاتها للحكومة المصرية، لـ "مراقبة الويب والرقابة الجماعية لمنع الأخبار واستهداف الجهات السياسية ونشطاء حقوق الإنسان"، ووضعتها على قائمة "الكيانات المحظورة".
وأثار قرار أمريكا بعقاب الشركة الكندية سعادة بين الحقوقيين، لكنهم تساءلوا عن سر استهداف واشنطن الشركة الكندية فقط دون شركات أخري أوروبية تمد مصر بأنظمة مراقبة وتجسس وتتبع وحجب إنترنت، بما فيها شركات إيطالية وفرنسية وبريطانية؟
وكانت شركة "فرانسيسكو بارتنرز" الأمريكية استحوذت على شركة "ساندفين"، والتي تأسست في كندا عام 2017، ودمجتها مع شركة "بروسيرا نتوركس" 2017، في صفقة بقيمة 444 مليون دولار، تحت شركة واحدة باسم "ساندفين".
وبحسب تحليل معمل "سيتيزن لاب" الكندي، الذي يتتبع برامج المراقبة والحجب، تمتلك شركة "فرانسيسكو بارتنرز" عددًا من الاستثمارات في شركات التكنولوجيا، ومن بينها شركة NSO Group اﻹسرائيلية، والتي تعمل على تطوير وبيع برمجيات تجسس خاصة بالهواتف النقالة.
واستُخدمت برمجياتها في استهداف الصحفيين والمحامين والمدافعين عن حقوق اﻹنسان والتجسس على هواتفهم، في قرابة 45 دولة حول العالم، أبرزها –عربيا-الإمارات والسعودية والبحرين والأردن والمغرب ومصر والجزائر.
وهو ما يعني أن شركة ساندفاين لديها أسهم في الشركة الإسـرائيلية NSO، التي تتعامل معها كثير من الحكومات العربية.
"إخطبوط" مراقبة وحجب
في يوم 21 سبتمبر/أيلول 2020، كشف تحقيق تقني أجراه موقع "المنصة" المصري مع مؤسسة Qurium أن مقدمي خدمة الإنترنت في مصر طوروا استراتيجيات لحجب مئات المواقع، مع هذه الشركة الكندية، وذلك عبر حجب أسماء النطاقات البديلة، subdomains، التي تستخدمها المواقع للوصول إلى جمهورها، مستخدمين في ذلك wildcard لمنع الوصول إلى النطاقات دون تمييز.
وأكد التحقيق أن ذلك يتم من خلال "مراقبة" منافذ التواصل مع خوادم البريد الالكتروني، من خلال بروكسي، وكذلك عناوين الإنترنت الداخلية التي تجري مراقبتها أيضًا.
كما نقل موقع "مدي مصر"، في 11 مارس 2018، عن الخبير التقني "عمرو غربية" أنه يمكن أن تكون هناك استخدامات "شرعية" للتكنولوجيا التي تستخدمها الشركة الكندية (فحص الحزم العميقة) لكن لها أيضا استخدامات مُضرة، وأن الأمر يعتمد على الطريقة التي يتم بها تهيئة النظام، والتي قد تتسبب في "مخاطر جادة تتعلق بحقوق اﻹنسان، مثل مراقبة الولوج إلى المحتوى"، أو اﻷسوأ وهو إصابة المستخدمين ببرمجيات خبيثة في هدوء، أو النصب المالي على نطاق واسع".
وتحدث "عمرو غربية" عن غياب إطار تشريعي واضح في الدول التي تقوم بتصدير مثل هذه التقنيات، لمنع تصدير برمجيات إلى الدول التي قد تستغلها في انتهاكات حقوق اﻹنسان، باستثناء "إجراءات فردية" في بعض الدول لتنظيم هذه العلاقة، عبر تراخيص التصدير التي تصدرها.
وبينت هذه التقارير أن شركة ساندفين التي توصف بأنها "إخطبوط" مراقبة وحجب، باعت تقنية تُعرف باسم "فحص الحزم العميق (DPI)"، لمصر، والتي يمكن استخدامها لمراقبة التدفقات الهائلة لحركة مرور الإنترنت التي تمر بين الشبكات.
وبموجب هذه التكنولوجيا يُمكن "منع البريد العشوائي والفيروسات"، وهو ما تقول الشركة علنا أنه هدفها، "ولكن يمكن أيضا عبر هذه الخاصية حظر الملايين من مواقع الويب وتطبيقات المراسلة وتنفيذ مراقبة سرية لنشاط الإنترنت"، وفق موقع "بلومبيرغ"، الذي أكد يوم 8 أكتوبر 2020، بيع هذه الشركة منتجات مراقبة الإنترنت لأنظمة استبدادية، أبرزها مصر والإمارات وبيلاروسيا وإريتريا وأوزبكستان.
وتوفر "ساندفين" خدمة توفير مهندس عمليات مقيم في أماكن عملائها، بحسب ما جاء على موقعها الإلكتروني، لكن يصعب معرفة من هو. وبحسب تقرير لمعمل "سيتزن لاب" الكندي بعنوان "حركة إنترنت سيئة"، نشر يوم 9 فبراير 2024، يطرح وجود هذا المهندس الغامض للشركة في أي بلد، أسئلة حول "مدى معرفة الشركة أو اشتراكها في أنشطة ذات تأثير كبير على وضع حقوق اﻹنسان في هذه البلاد، ومنها مصر".
بالطبع لايعني خروج "ساندفين" من مصر أن النظام الانقلابي سيلغي إجراءات التجسس على المواقع والبريد الإلكتروني ووسائل التواصل، لأنها فقط واحدة من بين الشركات التي يستخدم النظام برامجها في أعمال التجسس وقمع المعارضين.