بين صون الهوية وتحديات الخوارزميات: قمة إسطنبول للإعلام الذكي ترسم خارطة طريق عربية لتمكين الشباب

الثلاثاء - 28 أكتوبر 2025

  • محمد العركي: الإعلام الذكي لم يعد مجرد قفزة تقنية بل قوة ثقافية تعيد رسم ملامح الهوية
  • وئام سعيد: غياب التوجيه القيمي والمعرفي في صناعة المحتوى ما زال يمثل تحديًا كبيرًا
  • عبدالرحمن الزراعي: نماذج عربية ذكية تسهم في تسريع العمل الإعلامي وإثراء أدواته الرقمية
  • مي الورداني: ضرورة "الحوكمة الأخلاقية" لضبط استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في الصحافة

 

"إنسان للإعلام"- إيمان سلامة:

في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها المشهد الإعلامي العالمي، وبروز تساؤلات جوهرية حول مستقبل الصحافة في عصر الذكاء الاصطناعي، عُقدت في مدينة إسطنبول "القمة العالمية للإعلام الذكي وتمكين الشباب"، يومي 25 و26 أكتوبر 2025، بمشاركة "مركز إنسان للدراسات الإعلامية" ونخبة من المؤسسات والخبراء العرب، من السودان، مصر، السعودية، ليبيا، سوريا، والمغرب.

ناقشت القمة، التي نظمتها شركة "المشرق للإعلام"، التحديات والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي أمام الصحفيين العرب، وتمكين الشباب من أدوات التقنية الحديثة، وبناء جسور تواصل بين المؤسسات الإعلامية؛ بهدف تعزيز التعاون الدولي في مجال الإعلام الذكي.

الإعلام الذكي بين الهوية والثقافة الرقمية

وشهد اليوم الأول من القمة عرض مجموعة من الأوراق البحثية قدمها خبراء إعلام تناولوا فيها تأثير الذكاء الاصطناعي على بيئة العمل الصحفي، وأبرز التحديات التي تواجه الصحفيين في التكيف مع أدواته، إضافة إلى التأكيد على أهمية وجود مواثيق أخلاقية تضبط التعامل مع التقنيات الحديثة وتمنع انزلاقها نحو التضليل أو الانحياز.

وقدّم الدكتور محمد العركي، الخبير الإعلامي والمستشار العام للقمة، ورقة بحثية تناولت تحليلًا عميقًا لمفهوم "الإعلام الذكي" وتأثير أدواته – مثل خوارزميات التوصيات التلقائية – على ديناميكيات العلاقة بين منتجي المحتوى ومتلقيه.

وبحثت الورقة في مكونات الهوية الثقافية وتحدياتها في العصر الرقمي، من أخطار تهميش اللغات والموروثات المحلية، إلى الفرص الجديدة للتعبير عنها على نطاق عالمي.

وأشار العركي إلى أن التحولات التي أحدثها الإعلام الذكي لم تعد مجرد قفزة تقنية، بل أصبحت قوة ثقافية فاعلة تعيد رسم ملامح الهوية في عالم يتغير بوتيرة متسارعة.

 وأوضح أن الورقة تستكشف التفاعل المعقد بين الإعلام الذكي والتنوع الثقافي، مركزة على معضلة الموازنة بين مكتسبات التقدم التكنولوجي ومتطلبات صون الهوية الثقافية في ظل هيمنة الخوارزميات.

كما تناولت الورقة الخوارزمية كفاعل ثقافي رئيسي يمكن أن يعيد تشكيل الأذواق والوعي الثقافي للمستخدمين، كاشفةً عن التحيزات الخوارزمية التي قد تعكس وتعمّق التحيزات الثقافية القائمة.

واستعرضت أخطار الإعلام الذكي على التنوع الثقافي، ولا سيما هيمنة الثقافات العالمية الموحدة، مقدمةً حلولًا عملية لاستخدام الخوارزميات في تعزيز المحتوى المحلي وتوسيع نطاقه وانتشاره عالميًا.

وفي ختام ورقته، قدّم الدكتور العركي مجموعة من المقترحات العملية، شملت وضع تشريعات وطنية تُلزم المنصات الرقمية بدعم المحتوى المحلي، وتعزيز أدوار المؤسسات الثقافية والتعليمية في رفع الوعي المجتمعي، مع الاستناد إلى الأطر الدولية مثل توصيات "اليونسكو"

وأكد أن إدارة الإعلام الذكي بسياسات رشيدة وتعاون دولي هو السبيل لضمان أن يكون التطور التقني حليفًا للإنسان وحاميًا لقيمه الثقافية.

تمكين الشباب وريادة المحتوى الرقمي

من جانبها، تحدثت الإعلامية الجزائرية وئام سعيد عن محور "تمكين الشباب وريادة المحتوى الرقمي"، مؤكدة أن الإعلام في زمن التقنيات الحديثة بات يعيش لحظة انتقال نوعية، حيث تنتقل المعلومة بسرعة الضوء، ولم يعد الإعلام مجرد وسيلة نقل، بل أصبح أداة تمكين للشباب الذين يؤمنون بأن الكلمة والفكرة قادرتان على تغيير الواقع.

وتساءلت سعيد: كيف يمكن تحويل هذا الواقع إلى ريادةٍ وتمكينٍ حقيقي يغيّر المشهد الإعلامي نحو الأفضل؟ وهل يكفي الوجود الرقمي لصناعة أثر فعلي؟

وأوضحت أن المشهد الرقمي اليوم يُظهر أن الشباب لم يعودوا مجرد مستهلكين للمحتوى، بل أصبحوا صانعين له ومؤثرين في تشكيل الرأي العام عبر منصات متعددة، بفضل الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إلى الأدوات الرقمية.

وقالت: رغم امتلاك كثير من الشباب القدرات والشغف والطاقة، إلا أن غياب الرؤية الاستراتيجية والتوجيه القيمي والمعرفي في صناعة المحتوى ما زال يمثل تحديًا كبيرًا، داعية إلى تحويل الوجود الرقمي من حضورٍ افتراضي إلى مشاريع فعلية تُسهم في التغيير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

وأضافت أن المحتوى لم يعد مجرد وسيلةٍ للتواصل، بل أصبح لغة تأثير وأداة لصناعة الصورة الذهنية، معتبرة أن الخطوة المقبلة يجب أن تكون الانتقال من الموهبة إلى الريادة، ومن "صناعة المحتوى" إلى "صناعة القيمة"، عبر مشاريع رقمية تعبّر عن الهوية وتخلق أثرًا مستدامًا.

وتابعت سعيد قائلة: "صانع البودكاست الذي يشارك تجارب واقعية في ريادة الأعمال، أو صانعة المحتوى التي تبتكر أساليب رقمية وتوعوية، كلاهما يمثل نموذجًا لريادة إعلامية جديدة تعيد تعريف التأثير".

وأضافت: "حين يعرف الشاب لمن يتحدث، ولماذا يتحدث، وكيف يوصل فكرته، يصبح محتواه جزءًا من حركة إعلامية ناضجة، لا مجرد منشور عابر وسط ضجيج المنصات".

وأكدت أن الريادة الحقيقية تبدأ من الوعي والفكر والمسؤولية، مشيرة إلى أن دور المؤسسات الداعمة والجامعات والمبادرات الوطنية والإقليمية يتمثل في احتضان المواهب الإعلامية الشابة وتحويلها إلى مشاريع ريادية مستدامة تُقدَّم فيها الأفكار كمنتجات إعلامية، والخبرة كقيمة اقتصادية ومعرفية في آن واحد.

وشددت على أن تمكين الشباب في الإعلام الرقمي لا يعني مجرد تدريبهم على أدوات التكنولوجيا، بل الاستثمار في الإنسان أولًا؛ في قدرته على التحليل، ووعيه بمسؤوليته كمُنتِج للمحتوى.

وأعربت عن إيمانها بقدرة الأجيال الجديدة على قيادة التحول الإعلامي والمشاركة في صنع القرار الإعلامي، والمساهمة في بناء سردية وطنية رقمية تعبّر عن واقعهم وطموحاتهم.

وختمت بالتأكيد على أن تمكين الشباب وريادة المحتوى الرقمي ليستا ترفًا فكريًا، بل خطة مستقبلية تضمن بقاء الإعلام مساحةً للتنوير لا للتضليل، وللإبداع لا للتقليل.

صورة جماعية للمشاركين بالمؤتمرصورة جماعية للمشاركين بالمؤتمر

من الهيمنة التقنية إلى الشراكة الإنسانية

واصلت القمة في يومها الثاني مناقشة عدد من الأوراق البحثية، وشهدت الدعوة إلى وقف الحرب في السودان وبحث الحلول السلمية التي تضمن وحدته، إلى جانب التضامن الكامل مع غزة والمطالبة بوقف إطلاق النار وفك الحصار، وتمكين الإعلام من نقل الحقيقة دون قيود.

وفي إحدى جلسات اليوم الثاني، قدّم الدكتور عبد الرحمن الزراعي، الأكاديمي والباحث السعودي، ورقة بعنوان "النماذج العربية الذكية: من الهيمنة التقنية إلى الشراكة الإنسانية"، استعرض خلالها مشروع إنشاء نماذج عربية ذكية تسهم في تسريع العمل الإعلامي وإثراء أدواته الرقمية، موضحًا أن المشروع يقوم على امتلاك زمام التقنية وبناء نماذج عربية مستقلة لا تكتفي بالاستخدام، بل تؤسس لمرحلة الإنتاج التقني العربي الذاتي في مجال الذكاء الاصطناعي.

وأشار "الزراعي" إلى أن المشروع يهدف إلى توطين التقنية من خلال تدريب النماذج وتخصيصها بما يتناسب مع السياقات العربية والثقافية، وبما يخلق بدائل فعالة للنماذج الأجنبية، ويعزز استقلالية القرار الإعلامي العربي، موضحا أن هذه النماذج تعمل على تحسين الاتصال الجماهيري عبر دعم الصحفيين والمنتجين في توليد النصوص والصور والفيديوهات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، بما يعزز الكفاءة والموضوعية ويحد من التضليل، مع حماية الخصوصية وابتكار أنواع جديدة من الإعلام تستفيد من تحليل الاتجاهات والرأي العام وصياغة القصص التفاعلية المبتكرة.

وأكد أن المشروع واجه عددًا من التحديات، أبرزها ضعف البنية اللغوية العربية، موضحًا أن النصوص العربية غالبًا ما تُكتب دون تشكيل، مما يؤدي إلى التباس في النطق وفقدان بعض المعاني، خاصة في النشرات الصوتية والإنتاج الإذاعي.

وقال الزراعي: "واجهنا هذا التحدي من خلال نموذج تشكيل النصوص الذي يعمل على ضبط النطق والمعنى النحوي لضمان وضوح المعنى ودقة النطق وتحسين الأداء الصوتي في أنظمة القراءة الآلية والنشرات المولدة بالذكاء الاصطناعي، فضلًا عن تدقيق النصوص وترجمة المصطلحات بدقة عالية".

وأضاف: "من خلال هذه النماذج يمكن للإعلام العربي أن ينتقل من النشر السريع إلى الإنتاج الدقيق الذكي، إذ يعالج كل نموذج فجوة محددة في العملية الإعلامية، من التشكيل إلى التدقيق، ومن التحليل إلى التوثيق، لتتحول غرف الأخبار إلى بيئات ذكية تُدار بالبيانات واللغة معًا."

وختم الزراعي بالتأكيد على أن هذا المشروع يمثل خطوة عملية نحو تطوير نماذج عربية ذكية تدعم الإعلاميين وصناع المحتوى، وتعزز الهوية الثقافية، وتخدم مسارات التنمية المستدامة في الفضاء الإعلامي، كما تمكّن الشباب العربي من إنتاج محتوى رقمي أصيل عالي الجودة يحافظ على الهوية اللغوية والرمزية.

الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز القدرة البشرية

واختتم الملتقى فعالياته بفقرة "بودكاست المشرق" وعدد من النقاشات المفتوحة، حيث ناقش الصحفيون والمتخصصون سبل تحويل الذكاء الاصطناعي إلى فرصة اقتصادية حقيقية للمؤسسات الإعلامية العربية، كما طرحوا تساؤلات حول ما إذا كان مستقبل الإعلام سيعتمد على الصحفيين التقنيين أكثر من الصحفيين التقليديين، في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم الإعلامي.

وفي مداخلتها ضمن البودكاست، قالت مي الورداني، مديرة مركز إنسان للدراسات الإعلامية: "يجب أن يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة تُعزز القدرة البشرية على تقديم محتوى صحفي عالي الجودة وموثوق."

وأكدت أن هذه التقنيات "يجب أن تكون محرراً مساعداً للصحفيين لا رئيساً للتحرير، بحيث تكمل عملهم وتساعدهم على أداء مهامهم اليومية بسرعة ودقة، دون أن تحل محلهم"، موضحة أن "الصدق في هذا السياق ليس ترفاً أخلاقياً بل مبدأ مهني ومسؤولية جوهرية"، مشددة على ضرورة تطبيق الحوكمة الأخلاقية في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.

وتابعت قائلة: "يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تساعدنا في تخصيص المحتوى بحيث يتناسب مع اهتمامات القراء بشكل أفضل، من خلال تحليل بيانات المستخدمين وتقديم مقترحات للمحتوى بناءً على سلوكياتهم السابقة، مما يعزز التفاعل والقراءة."

وأضافت "الورداني" أن انتشار الأخبار المضللة والمزيفة من أكبر التحديات التي تواجه الصحافة الحديثة، مشيرة إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد الصحفيين في التحقق من الأخبار بسرعة ودقة، لكنها حذّرت من الاعتماد المفرط عليه، لما قد يؤدي إليه من تقليص للتنوع والإبداع اللذين يمثلان جوهر العمل الصحفي.

وطالبت "الورداني" القمة بما ضمّته من خبرات أكاديمية وتقنية متنوعة، بتبني مبادرات شبابية عربية لتطوير منصات أو نماذج للأتمتة في الإعلام، داعية إلى إطلاق "دبلوم تدريبي متطور" لتأهيل الشباب على أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي لمواكبة تطورات المهنة.

واختتمت بقولها: "الخلاصة أن أدوات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تلعب دوراً مهماً في تحسين جودة المحتوى الصحفي، لا في تقليص الدور البشري، والفكرة ليست في استبدال الصحفيين، بل في دعمهم وتحسين جودة العمل الصحفي من خلال تلك التقنيات."

واختتمت القمة أعمالها ببيان ختامي أكد على جملة من النقاط أبرزها: الدعوة إلى وقف فوري وغير مشروط للحرب في السودان، ودعم الحلول السلمية التي تضمن وحدة السودان.

وأكدت القمة على مساندة مبادرة السلام الدولية ووقف العدوان على غزة، والدعوة إلى فك الحصار وتمكين الإعلام من نقل الحقيقة دون قيود.

وطالبت بتمكين الشباب كقوة فاعلة في بناء الإعلام الذكي، وتعزيز العلاقات الاستراتيجية بين المؤسسات الإعلامية في تركيا والدول الصديقة لتبادل الخبرات والتجارب.