محمد الباز يكتب: "مصر".. البوصلة لا تعمل

الخميس - 25 آغسطس 2022

- محمد الباز
( كاتب مصري )

تُحدد الاستراتيجيات العامة للدول بوصلة تحركاتها فى الملفات المختلفة، ولقد أطلقت الدولة المصرية العديد من الاستراتيجيات الوطنية، (رؤية مصــر2030 - الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ في مصر2050 - الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان2021 - الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة المصرية 2030). وعلى الرغم من هذه الاستراتيجيات الكثيرة إلا أن مسارات معالجة الدولة للكثير من القضايا لا تُحقق أهداف هذه الخطط الضخمة، كما أن الواقع المصري الغارق فى معضلات سياسية واقتصادية واجتماعية ينسف جدوى هذه الاستراتيجيات.

والحقيقة أن مسارات الدولة فى معالجة أغلب القضايا تثير حالة من الذهول عند الكثير من المحللين السياسيين والاقتصاديين، إذ أصبح فشل الدولة فى معالجة الكثير من القضايا أمرًا واقعًا، من سد النهضة إلى دوامة الديون مرورًا بتردى الظروف المعيشية للمواطنين، كما يعكس هذا الفشل أسباب هشاشة الدولة أمام الأزمات العابرة للحدود.

طبيعة الاستثمارات الاجنبية

لا يكاد يخلو حديث لمسؤول مصري، من الإشادة والاستدلال بحجم الاستثمارات الأجنبية، كدليل لكفاءة خطط الدولة الاقتصادية، حيث كان صافي الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل فى مصر العام الماضي 5 مليارات و122 مليون دولار في عام 2021، بحسب بيانات البنك المركزي المصري، وتتركز اتجاهات هذه الاستثمارات نحو قطاعين، الأول: قطاع البترول والغاز بنسبة 62% من حجم الاستثمارات، (وسوف نعود له مرة أخرى فى هذا المقال). الثانى: هو شراء الشركات العاملة والرابحة بالفعل، والأمثلة تربو على الحصر، كما يشوب عمليات البيع والاستحواذ الكثير من الغموض والتساؤلات، بسبب غياب الشفافية، حول التسعير والترسية.

وبحسب تقرير الكونجرس الأمريكى، الصادر فى منتصف يونيو الماضي، فقد تعهدت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر في عام 2022 بتقديم أكثر من 22 مليار دولار في أشكال مختلفة من المساعدة لمصر (ودائع بالعملة في البنك المركزي، واستثمارات مشتركة). ومع ذلك، على عكس الحالات السابقة للمساعدات الخليجية لمصر، الآن، تسعى دول الخليج العربية لشراء الأصول المملوكة للدولة المصرية أو الشركات الخاصة.

فى مطلع يوليو الماضي، قرر مجلس إدارة شركة السادس من أكتوبر للتنمية والاستثمار سوديك، إحدى الشركات التابعة للدار الإماراتية، المدرجة فى سوق أبوظبي المالية، تقديم عرض غير ملزم للاستحواذ على 100% من أسهم شركة مدينة نصر للإسكان والتعمير، بسعر يتراوح من 3.2 جنيه إلى 3.4 جنيه للسهم الواحد، وحققت الشركة إيرادات مجمعة فى عام 2021، بقيمة 2.23 مليار جنيه، فيما بلغ صافى الربح، 282 مليون جنيه، مقارنة بأرباح تقارب المليار جنيه تقريبا خلال 2020، بنسبة تراجع 72%. وتملك الشركة محفظة أراضٍ غير مستغلة تبلغ مساحتها نحو 6.67 مليون متر مربع، فى منطقة شرق القاهرة.

التفريط فى الحقوق الأصيلة

"عندما يتم التفاوض بين حكومة دولة من الجنوب، مع شركة متعددة الجنسيات، يكون التفاوض بين منظمة أكثر تطورًا وغنيً، مع منظمة فقيرة وأقل كفاءة وخبرة" (علم السياسة، الأسس- ستيفن دي تانسي)

كان التفريط فى ثروات مصر ومواردها الطبيعية، ومازال، منهجًا متبعًا للحكومات المتعاقبة على مصر، بحجة جذب الاستثمارات الأجنبية، التى تكشف انبطاح الدولة أمام الشركات الكبري العابرة للقارات، خصوصًا فى مجالات البترول والغاز والتعدين.

على سبيل المثال: كشفت تقارير للجهاز المركزى للمحاسبات لعام 2011/2010، وأخرى للبرلمان المصري فى مايو 2012، عن مخالفات جسيمة فى منجم السكرى، لم يتم التحقيق بها حتى الآن.

وفى ظل أزمة عالمية تهدد استقرار سلاسل توريد الطاقة، وارتفاع جنونى للوقود، قررت هيئة قناة السويس، في بيان لها الثلاثاء 14 يونيو الماضي، تمديد العمل بتخفيضات لناقلات النفط الخام والغاز حتى نهاية 2022، وعلى الرغم من تحقيق قناة السويس إيرادات قياسية، إلا أنه كان ينبغى أن تراعي الدولة المصرية عجزها المالى، وحاجتها الماسة للعملة الأجنبية على توفير الدعم لسوق الطاقة العالمى. هذه التخفيضات التى تصل الى 75%، والتى يستفيد منها السوق الأوروبي، كان المواطن المصرى أولى بها.

من ثم، فإن مسلسل نزيف الثروات والموارد المصرية قديم، ومستمر معنا حتى الآن، ولقد تشكلت طبقة من المسؤولين فى مصر، متخصصين فى اهدار حقوق الأصيلة للدولة المصرية، بدءًا من بيع الأراضى، وترسيم الحدود البحرية، مرورًا بالتعاقدات مع شركات التعدين والشركات المشغلة لمناجم الذهب، وحتى امتيازات الغاز والنفط.

الغاز والاحتياطي المؤكد

وقعت مصر مذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي واسرائيل، 15 يونيو 2022، فى اليوم نفسه الذي أعلنت فيه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، عن 100 مليون دولار إغاثة غذائية عاجلة لمصر، وضخ 3 مليارات دولار استثمارات فى قطاع الطاقة، المذكرة التى لم يُعلن الكثير من تفاصيلها، لن يترتب عليها تغير على أرض الواقع، حيث تتناقض ضخامة الحفاوة الإعلامية، بتوقيع مذكرة التفاهم الثلاثى بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، لزيادة إمدادات الغاز الطبيعي الى أوروبا، مع ضعف البنية التحتية لنقل الغاز من إسرائيل الى مصر. حيث لا تزيد قدرة شبكة إسرائيل الداخلية التي تنقل الغاز إلى مصر عن 450 مليون قدم مكعب يوميًا. والتى لا تكفى للوفاء باتفاقية الغاز الإسرائيلية المصرية 2018، التى تُلزم مصر بشراء 7 مليارات متر مكعب من الغاز الإسرائيلى المخصص للاستهلاك المحلى المصري، بحسب تعديل 27 يوليو 2019، ولكن لا يعبر إلى مصر عبر خط الغاز عسقلان العريش سوى 5 مليارات متر مكعب من الغاز الاسرائيلى، من حقلي Leviathan و Tamar.

وفى العشرين من يونيو 2022، أى بعد خمسة أيام، من العقد الثلاثى، وقعت مصر مذكرة تفاهم مع شيفرون للتعاون في إسالة وتصدير غاز شرق المتوسط، وقال راي فور، المتحدث باسم شيفرون لعمليات إفريقيا وأمريكا الجنوبية، لـ NGI "إن مذكرة التفاهم تنص على إرسال الغاز من أصول شيفرون الإقليمية إلى مصر من أجل الغاز المحلي وسوق الغاز الطبيعي المسال الدولي".

وفوق كل هذا، لا توجد إحتياطيات مؤكدة من الغاز الطبيعى لدى مصر، تجعل من الغاز مصدر طاقة موثوق ومستدام حتى على المدى المتوسط، فبحسب دراسة معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة يونيو 2018، فى أحسن الأحوال، فإن صادرات مصر من الغاز لن تصمد سوى بضع سنوات، ستعود بعدها مصر الى الاستيراد، رغم النمو الطفيف على الطلب.

على صعيد آخر، فى نهاية مايو الماضى، صدر تقرير عن وود ماكينزى بيت الخبرة الشهير، يحذر فيه الدول الأوروبية من إحتمالية تباطؤ خططها للتحول الطاقى، نتيجة الإرتفاع الكبير فى أسعار المواد الأولية لصناعة الطاقة الشمسية، ويشمل ذلك عناصر البولي سيليكون والفضة والألمنيوم والزجاج والصلب والنحاس، فى نفس الوقت، الذي تتضاعف فيه صادرات مصر من هذه العناصر الهامة، والتى تسعى الكثير من الدول لبناء مخزونات استراتيجية منها.

تحركات متأخرة ونتائج متدنية

كانت الأزمة الليبية تتفاقم أمام أعين الأجهزة المصرية المعنية، والتى تعلم أهمية ليبيا للأمن القومى المصرى، إلا أن التأخر المصرى ساهم فى تعقّد الأزمة الليبية، ودخول لاعبين آخرين الى الساحة الليبية ما يزيد من تفاقم الأوضاع، وعندما تحركت واصطفت الى جانب الشرق الليبي اكتشفت مُأخرًا أنها تقف على الجانب الخاطئ، قبل أن تحاول معايرة تموضعها، وتعود الى لعبة هندسة الصراع داخل ليبيا لتحقيق مصالحها.

الموقف المصري من الأزمة الليبية كان مرهونًا بموقف الشركاء الخليجيين، كما اختزلت إدارة الملف الليبيى فى أيدى الأجهزة الأمنية، وهو ما عزز الرفض الشعبي الليبي للتدخلات المصرية، حتى الآن لم تحقق مصر تقدمًا ملموسًا على مستوى الأزمة الليبية، كما عمقت الفجوة بين الرؤى المصرية والجزائرية للحل السياسي، الذي زاد من التوتر المصري الجزائرى.

غادر السيسى الكويت فى 23 فبراير الماضي قبل ساعات من وصول الرئيس تبون، لتلغى قمة ثلاثية كانت مجدولة فى الكويت، بين مصر والكويت والجزائر، وعزى مراقبون تصرف السيسي لأسباب تتعلق بدعم الجزائر لرئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة، إضافة إلى إعلان كل من إثيوبيا ونيجيريا والجزائر وجنوب إفريقيا تشكيل مجموعة الأربعة G4 على هامش القمة الإفريقية الأوروبية ببروكسل.

ومن أجل تضييق هذه الفجوة، ومحاولة تقليل حدة التوتر بين مصر والجزائر، عُقدت  الدورة الثامنة للجنة العليا المصرية الجزائرية، 29 يونيو الماضى فى الجزائر، وخلال زيارة لوفد كبير من الوزراء المصريين على رأسهم رئيس الوزراء، وقعت البلدان 12 اتفاقية، شملت قطاعات الصناعة والدبلوماسية والثقافة والتعليم العالي.

سابقًا، خصصنا مساحات واسعة لمناقشة السياسة المصرية المثيرة للجدل تجاه سد النهضة، والتى تتناقض مع قواعد السياسة العملية، حيث تعتمد الدول الأضعف فى القدرات العسكرية والاقتصادية على مبدأ احترام القانون والإلتزام بالمعاهدات، خلال المفاوضات على القضايا الوجودية لأمنها القومى.

فعلى الرغم من تفوق مصر عسكريًا واقتصاديًا على إثيوبيا، إلا أنه يبدو أن الحرص المصري على إحترام القانون والإلتزام بالمعاهدات يتفوق أيضا على التزام إثيوبيا، وهنا يبدو التساؤل حول مفهوم المصلحة الوطنية عند القيادة المصرية منطقيًا، هل تعنى المصلحة الوطنية حفظ السلطة واستقرار الحكم؟!!، أم أنها تعنى حفظ الدولة والحفاظ على أمنها القومى؟، وبما يحقق استقرار الحكم أيضًا.

استنتاجات

  • تجسد الاستثمارات الأجنيبة بين الدول/الشركات الكبرى تكامل القدرات والخبرات، ولكن بين هذه الدول/الشركات ودولة كمصر، هى فرصة لتحقيق مغانم شتى على حساب شعوب لا تملك من أمرها شيئًا، واستنزاف لثرواتها الطبيعية والبشرية، وذلك بالتعاون مع سلطة حاكمة مستبدة، لا تراعي حقوق شعوبها. ويتجلى ذلك فى حجم تفريط هذه السلطة فى موارد الدولة، ومدى تأثير القوى الخارجية على الحكومة أثناء كتابة اتفاقيات وعقود الاستثمار.
  • تُعيد هرولة مصر نحو تصدير الغاز مشهد السيناريو الأسود، الذي عاشته مصر عام 2005، باتفاقية تصدير الغاز المصري لإسرائيل، على يد سامح فهمى وحسين سالم، والتى تحولت سريعًا الى كابوس، حيث انخفض انتاج مصر من الغاز، وتحولت من دولة مصدرة لدولة مستوردة، هذا المشهد الذي نراه يتكرر الآن أمام أعيننا. ففى غضون بضع سنوات من الآن ستعود مصر لاستيراد الغاز الطبيعى مرة أخرى.
  • يعكس التدهور السريع للأوضاع فى مصر فشل الدولة فى إدراة العديد من الملفات، كما يثبت عدم دقة الرواية التي تروج لها الدولة فى أغلب القضايا، فبينما يئن المواطنون تحت وطأة الغلاء والفقر مازالت آلة الدولة الإعلامية تتغني بخطط الإصلاح الاقتصادي، وعلى الرغم من طمأنة قيادة الدولة المواطنين أن سد النهضة لن يمنع الماء عن مصر، إلا أن الملء الثالث للسد انتهي منذ أيام.  
  • تأخرت الدولة المصرية فى معالجة الكثير من المشكلات، وحتى عند تحركها، إما تحركت فى الإتجاه الخاطئ أو حققت نتائج متواضعة، من سد النهضة إلى الأزمة الليبية، مرورًا بالعلاقات المصرية الجزائرية.
  • ينبغى أن تتجاوز مصر سياسة إطفاء الحرائق فى القضايا المهمة، مثل سد النهضة والأزمة الليبية، والفجوة التمويلية وعجز الميزانية المزمن وإعادة تموضع مصر على خريطة السياسة الدولية.

المصادر

  1. https://2u.pw/pEoFn
  2. https://2u.pw/dPfOl
  3. Egypt-a-return-to-a-balanced-gas-market-NG-131.pdf (oxfordenergy.org)
  4. https://2u.pw/EWxmv
  5. https://www.woodmac.com/news/opinion/solar-raw-materials-a-challenge-to-europes-net-zero-ambitions/
  6. https://asharq.com/ar/13rERX7lRka83J1vwvbKnZ-%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7%D8%B2/
  7. https://2u.pw/g3rlq
  8. https://sgp.fas.org/crs/mideast/R4716...
  9. https://www.naturalgasintel.com/chevron-egypt-pondering-increased-natural-gas-exports/
  10. https://arabicpost.net/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/2022/02/23/%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D9%88%D8%AA%D8%A8%D9%88%D9%86/
  11. https://www.alaraby.co.uk/economy/12-%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%88%D9%86-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D8%AF%D8%A8%D9%88%D9%84%D9%8A