محمود عبدالهادي يكتب: حرب أميركا في أوكرانيا | (11) مخاوف روسية من النظام القائم على القواعد

الخميس - 18 آغسطس 2022

- محمود عبد الهادي
( كاتب صحفي وباحث )

يمثل موضوع "النظام الدولي القائم على القواعد" محور الارتكاز، في المنافسة الحادة بين الصين، والولايات المتحدة التي تريد أن تطوّر النظام الدولي الحالي على طريقتها، وكذلك تريد بكين تغيير النظام الحالي على طريقتها هي الأخرى، وكل منهما له تعريفه ومفهومه الخاص للقواعد التي ينبغي أن يقوم عليها هذا النظام.

الإدارة الأميركية تتحدث بكل وضوح عن إستراتيجية توحيد حلفائها وشركائها للدفاع عن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مثل تقرير المصير والسيادة والتسوية السلمية للنزاعات. وتشدد على أن الصين هي الدولة الوحيدة التي لديها نية لإعادة تشكيل النظام الدولي، وتستخدم بشكل متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك. وروسيا ليست ببعيدة عن هذا المعترك، وهي تنظر إليه بعين القلق والريبة، خوفاً من أن يفرض أحد النظامين نفسه على العالم، على حساب مصالح روسيا ومكانتها الدولية، على الرغم من أن هجومها على أوكرانيا، ومن قبل على شبه جزيرة القرم، وسوريا وأفغانستان، وغيرها، جميعها أمثلة شديدة الوضوح على تجاوزات القوى الكبرى للقانون الدولي الحالي، وسيبقى الحال كذلك في المستقبل.

مخاوف الخارجية الروسية بشأن مخاطر استبدال القانون الدولي بمفهوم "النظام الدولي القائم على القواعد" مبررة جداً، فقد أصبح هذا المفهوم يجد دعمًا من علماء القانون الدولي الأجانب، وأصبح مقبولاً على نطاق واسع، ليس فقط من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، ولكن أيضًا من قبل عدد كبير من الدول النامية والقوة الاقتصادية والعسكرية الصاعدة مثل الصين.

نستعرض في هذا المقال وجهة النظر الروسية (غير الرسمية) حول هذا الموضوع، حسب ما جاء في ورقة بحثية روسية بعنوان "مصطلح النظام الدولي القائم على القواعد في الخطابات القانونية الدولية" نشرتها "مجلة موسكو للقانون الدولي" في يوليو/تموز من العام الماضي، شارك في إعدادها 5 من الأساتذة والباحثين في القانون الدولي في روسيا.

قواعد غامضة

تناولت الورقة الموضوع في 6 محاور، غطّت أسباب ظهور المفهوم وانتشاره، ومشكلة عدم الاتساق في فهم المقصود بهذا المفهوم، ونطاق عمل النظام الدولي القائم على القواعد في ظل غياب التعريف المحدد له والمعترف به، في غياب محتوى محدد وواضح لهذا النظام، إضافة إلى علاقة هذا النظام بالقانون الدولي، ومبدأ سيادة القانون الدولي.

بعد أن كثر استخدام مصطلح "النظام القائم على القواعد" بشكل متزايد بالخطابات السياسية في العديد من المحافل الدولية، بالرغم من أنه غير مستخدم في ميثاق الأمم المتحدة أو في الاتفاقيات الدولية العالمية الأخرى، ولا تجده في محكمة العدل الدولية ولا لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة. ومن ناحية أخرى، فإن تعميم مثل هذا الخطاب السياسي، والاستخدام المتكرر لهذا المصطلح من قبل ممثلي بعض الدول (ليس فقط من الدول الغربية، ولكن أيضًا من الصين، على سبيل المثال) يمكن أن يؤثر على القانون الدولي.

ومن هنا طرحت الورقة الأسئلة التالية:

كيف يرتبط مصطلح "النظام القائم على القواعد" بالمصطلح المعترف به عالميًا "النظام القانوني الدولي"؟ هل فكرة استخدام مصطلح "النظام القائم على القواعد" لها أسباب قانونية موضوعية؟ ما القواعد المقصودة في المصطلح؟ وكيف نشأت هذه القواعد؟ هل هي قواعد للقانون الوطني؟ أم أنها قواعد القانون الدولي؟

ينتشر المصطلح في الأوساط السياسية، ولكنه يفتقر إلى فهم محدد ومشترك لمحتواه، وهذا يعني أن كل شخص قد يضع معنى مختلفًا له، ويترتب على ذلك أن بعض المسؤولين السياسيين، الذين يمثلون الدول، يصبحون مؤهلين لإساءة استخدام النظام القانوني الدولي كما هو منصوص عليه في القانون الدولي الحديث.

على الرغم من أن الأسئلة المذكورة أعلاه حول المعنى القانوني لمصطلح "النظام القائم على القواعد" لم تظهر إلا في السنوات الأخيرة بشكل رئيسي في سياق الخطاب المناهض لروسيا من السياسيين الغربيين، فقد تم استخدام المصطلح في وقت سابق على مستويات مختلفة على نطاق واسع في مواضيع متنوعة.

ترى الورقة أن التصورات غير المتسقة لهذا المصطلح هي انعكاس آخر لمشكلة أكثر عمومية، تتمثل في إضعاف أو تعزيز النظام الدولي العالمي الحالي الملزم لدول العالم قانونًا. فقد تكون إحدى الصيغ التفسيرية المناسبة لمفهوم "النظام القائم على القواعد" أنه النظام العالمي الذي يقوم على قواعد القانون الدولي الملزمة، وعلى القواعد الدولية غير الملزمة القابلة للتطبيق، كالقواعد الدولية المنصوص عليها في وثائق المنظمات والمؤتمرات الحكومية الدولية، والترتيبات السياسية بين الدول، وغيرها من القواعد المقبولة بشكل متبادل، والتي تشكلت في الممارسة المعاصرة للعلاقات الدولية.

هذا التفسير يسمح بجعل المفهوم يتماشى مع القانون الدولي الحديث. ومع ذلك، حتى في ظل هذا التفسير، من الضروري احترام التمييز بين قواعد القانون الدولي الملزمة، والقواعد الأخرى التي لا يترتب عليها التزامات، بموجب القانون الدولي. وبالتالي، لن يُسمح بفرض قيم من جانب واحد، أو دولة واحدة، على دول أخرى تحت ستار القواعد التي يقوم النظام العالمي على أساسها وفقًا للدولة الأولى.

ومن جهة تفسيرية أخرى، قد يكون لمفهوم "النظام القائم على القواعد" تأثير سلبي على النظام القانوني الدولي الحالي، لأنه "يزيل" الإجراءات الشرعية المعمول بها في وضع القانون الدولي، وبالتالي يرفض القيم الدولية التقليدية للاستقرار القانوني وتقليص دور القانون الدولي في العلاقات الدولية. ومثل هذا التفسير لن يؤدي فقط إلى مضاعفة الغموض القانوني وحتى التوقعات غير المعقولة بين المشاركين في العمليات الدولية، بل قد يؤدي أيضًا إلى تقويض أساسيات القانون الدولي الحديث المستند إلى ميثاق الأمم المتحدة، ما سيؤدي بدوره، حتماً، إلى عدم الاستقرار القانوني العالمي، ويزيد بشكل كبير من مخاطر الحرب العالمية الثالثة.

وفي الوقت الحالي، فإن الاستخدام المتكرر لمصطلح "النظام القائم على القواعد" من قبل ممثلي دول الناتو لدعم بياناتهم ذات الدوافع السياسية، المتفق عليها فيما بينهم فقط، يحول دون تحقيق فهم مقبول للمصطلح على المستوى العالمي، يكون متسقاً مع القانون الدولي.

وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد لفت انتباه المجتمع الدولي إلى مصطلح "النظام القائم على القواعد" المستخدم على نطاق واسع. وفي كل مرة يعالج فيها لافروف القضية، يعترض على استخدام هذا المصطلح في الوثائق الدولية الرسمية، وكذلك في الخطاب الدولي لأسباب عديدة، ويرى أنها أصبحت جزءًا من الخطاب الرسمي الغربي قبل حوالي 3 أو 4 سنوات، وأنه أصبح يستخدم كمرادف للقانون الدولي من قبل القوى الغربية، ما جعل القواعد والمبادئ التقليدية وآليات القانون الدولي تتعرض الآن للتقويض، واستبدالها خطوة بخطوة ببعض القواعد غير العالمية، التي لم يتم تدوينها فحسب، بل تم إنشاؤها أيضًا على أساس أحادي الجانب.

مخاوف روسية

وتستنتج الورقة السمات الأساسية لمفهوم "النظام القائم على القواعد" المتوافق مع القانون الدولي، على النحو التالي:

ألا يشكك في شرعية إجراءات صنع القانون الدولي المعترف بها، واستبعاد أي تحريف غير تشريعي للقواعد القانونية العالمية. أن يحدد المعايير التي تشكل أساس النظام، والقواعد التي تشكل أساس الأمر، والجهة المسؤولة عن تطوير هذه القواعد، وكيفية تطبيقها. وبغير ذلك يكون الادعاء بأن "النظام القائم على القواعد" ملزِم عالميًا هو ادعاء خاطئ. ألا يكون مفهوم "النظام القائم على القواعد" مجردًا، على نحو ما يتردد على ألسنة السياسيين الغربيين. اقتصار إعداد القواعد على دائرة محددة من المختصين، وبالتالي استبعاد التوقعات غير المعقولة لتطبيق القواعد من قبل الدول التي لا تشارك في تطويرها.

ومن شأن هذه السمات البسيطة تعزيز المفهوم في الحياة الدولية الحقيقية، دون إثارة الشكوك حول مدى توافقه مع القانون الدولي.

وتستنتج الورقة أن استخدام مفهوم "النظام العالمي القائم على القواعد" في حد ذاته لا يزعزع استقرار النظام القانوني الدولي الحالي. ومع ذلك، فإن اعتماد المفهوم على المعنى المعطى له من قبل أولئك الذين يستخدمون هذا المفهوم، يجعله عرضة للتلاعب السياسي الخطابي. ومن وجهة النظر هذه، فإن مخاوف وزارة الخارجية الروسية بشأن مخاطر استبدال القانون الدولي بالمفهوم القانوني "النظام القائم على القواعد" مبررة جدًا، فقد أصبح هذا المفهوم يجد دعمًا من علماء القانون الدولي الأجانب، وأصبح مقبولاً اليوم على نطاق واسع ليس فقط من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، ولكن أيضًا من قبل عدد كبير من الدول النامية والقوة الاقتصادية والعسكرية الصاعدة مثل الصين.

المصدر الجزيرة