هوية مصر .. كيف حماها "مرسي" ودمّرها "السيسي"؟
الأحد - 9 يونيو 2024
- خطابات مرسي وتحركاته الداخلية والخارجية كانت معبرة تماما عن هوية مصر الإسلامية
- "السيسي" عمل على تدمير هوية مصر وحرفها عن مسارها وتشويه معالمها التراثية والدينية
- تحركات السيسي تلتقي تماما مع أهداف المشروع الصهيوني بمنع إحياء الخلافة الإسلامية!
- "نتنياهو": ساهمنا بمليارات الدولارات في انقلاب مصر حتى نمنع تحالف مرسي وأردوغان
- خصوم "مرسي" حاربوه لأن مشروعه "الإسلامي" يشكل خطرا على مشاريعهم الاستبدادية
- عودة مصر لهويتها الإسلامية معادلة تهدد الدولة الصهيونية والأنظمة العربية المصطنعة
- باحث: أمريكا تراجعت عن دعم الديموقراطية العربية خوفا من فوز "الأحزاب الإسلامية"
إنسان للإعلام- خاص:
مع اقتراب الذكرى الخامسة لاستشهاد رئيس مصر المنتخب محمد مرسي، الموافقة ليوم 17 يونيو، نستذكر كيف كان الحفاظ على هوية مصر هو الشغل الشاغل للرئيس الشهيد، منذ اليوم الأول لتوليه الرئاسة، بل قبل ذلك، فقد كان يؤمن بأن "جمهورية مصر العربية دولة مستقلة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ونظامها ديمقراطى، والشعب المصرى جزء من الأمتين العربية والإسلامية، ويعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الإفريقية وبامتداده الآسيوي، ويشارك بإيجابية فى الحضارة الإنسانية"، وفق المادة (1) من دستور 2012، كما كان إيمانه عميقا بأن الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع"، وفق ما جاء في المادة (2) من الدستور.
كان يؤمن بهذه الهوية الواضحة، بعد تأكيد الشعب ونخبه عليها في دستور 2012، الذي أعقب ثورة يناير 2011، كما أنه – رحمه الله- كان صاحب فكر وأجندة إسلامية واضحة، وينتمي لأكبر وأقدم حركة إسلامية في مصر وهي "الإخوان المسلمون"، ولذلك انقلبوا عليه، بداية من المجلس العسكري الباحث عن السلطة والثروة معا، والقوى الإقليمية المعادية للتيار الإسلامي (الإمارات والسعودية)، والقوي الغربية (إسرائيل وأميركا وأوروبا).
كانت هوية مصر ظاهرة في الخطاب الإعلامي للرئيس مرسي كهوية إسلامية في خطاباته وتحركاته (مثال: صلاة الفجر التي انتقدها معارضون يساريون بدعوى أنها تكلف مصر بسبب الحراسة).
وكان ظهور هذه الهوية والتعبير عنها أحد عوامل هجوم الخصوم السياسيين على الرئيس المنتخب، سواء في الدولة العميقة أو من رموز التيار العلماني بكل مكوناته.
وبدأت وسائل الإعلام حملة مبكرة بعد انتخاب الرئيس مباشرة؛ للإيحاء بأن موكب "مرسي" كبير الحجم تارة أو أنه يصلي الفجر والجمعة في مساجد ومحافظات مختلفة، مما يكلف خزانة الدولة مبالغ باهظة، بينما خرسوا عن مواكب السيسي الاستعراضية المستفزة بعد الانقلاب.
أيضا كانت هوية "مصر الإسلامية" بارزة في سياسات الرئيس مرسي، حيث سعى للتقارب مع الدول العربية والإسلامية أولا، ومن القوى الدولية التي لا تفرض أجندة تبعية على مصر كالغرب، مثل الصين وتركيا ودول آسيا وأميركا اللاتينية.
تحالف "السيسي" مع المشروع الصهيوني
في المقابل، بذل الانقلاب جهودا حثيثة منذ يومه الأول؛ لتدمير الهوية الإسلامية لمصر وحرفها عن مسارها، وتشويه تاريخ مصر كله، بل وهدم التراث الإسلامي والمقابر الإسلامية التاريخية، وإحياء التراث اليهودي وترميم معابده التي لن يدخلها أحد في مصر، ونبذ علماء الدين الإسلامي أو اعتقالهم، وإطلاق أصوات تشكك في ثوابت الدين، وتكريم العاهرات ونشر الرذيلة.
وقد اعترف السيسي في حوار مع " واشنطن بوست"، في 3 أغسطس 2013، بحرص مرسي على الهوية الإسلامية لكنه اعتبرها تطرفا ومحاولة لإحياء الخلافة الإسلامية!
قال حرفيا: "لو كان الانقلاب علي مرسي بسبب فشله لصبرنا عليه لانتهاء مدته ولكنه أراد إحياء المشروع الإسلامي وإعادة الخلافة الإسلامية"، وهو ما يلتقي تماما مع ما قاله مؤخرا رئيس مجلس النواب الأمريكي، "مايك جونسون"، في حفل استقبال أقامته سفارة الكيان في واشنطن: "الليلة، نحتفل بمرور أكثر من 76 عاما من الإنجازات. إننا نحتفل بالوفاء بالوعود التي قطعناها منذ آلاف السنين، الوعود التي قطعت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، الوعود التي نجت من المنفى البابلي، والخلافة الإسلامية، والمحرقة النازية"!
و أكد السيسي للصحفية "للي ويموث" أنه ما قام بالانقلاب وتولي الحكم إلا لإجهاض المشروع الإسلامي الذي أراده الرئيس محمد مرسي، فقال: "لو كان الانقلاب عليه لفشله، كنا صبرنا عليه لانتهاء مدته، ولكنه أراد إحياء المشروع الإسلامي والخلافة (الإمبراطورية الإسلامية)"، ما يبين دور السيسي في هدم هذه الهوية الإسلامية ومحاربتها عبر انقلابه والتقاء مصالحه مع الصهيونية العالمية تماما في تدمير هوية مصر وتقسيمها، وتذكير أمريكا والغرب – في حواره – بأنه يفعل ذلك من أجل مصالحهم!
وقال السيسي– مبررا سبب الانقلاب على الرئيس محمد مرسي -: إن "معضلة مرسي أنه ذهب لبناء مصر مستندا على أيديولوجية استعادة بناء الامبراطورية الإسلامية"!
ولم ينس اتهام أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بأنهم "مخلصون أكثر لمعتقداتهم الإسلامية أكثر من (إيمانهم) بمصر، قائلا: "الفكرة التي تجمعهم ليست قومية، وليست وطنية، إنها ليست إحساسًا بدولة"، في إشارة لإيمانهم بالهوية الإسلامية.
وبعد عام كامل من الانقلاب وفي لقاء له مع فضائية "العربية" السعودية، ذات التوجه العلماني، قال السيسي نصا: "لن يكون في مصر قيادات دينية ولن أسمح بذلك، فأنا المسئول عن الأخلاق والقيم والمبادئ"، ثم أكمل قائلا: "والدين أيضا"، وهنا قاطعته المذيعة متسائلة: "والدين أيضا؟!"، فأكد السيسي فكرته: "وعن الدين أيضا".
ثم شرع في سلسلة خطوات لتحجيم الدين الإسلامي في حياة المصريين والسعي لتغيير ثوابت وهوية الأمة بدعاوي "تحديث الخطاب الديني" والتدخل أيضا في الفتاوي (الطلاق الشفوي وغيره).
الحماية من "خطر الإسلام السياسي"
وفي كل خطبه، حرص على الزعم بأن ما يسميه "ثورة 30 يونيو" قد "حافظت على هوية مصر من الاختطاف"، دون أن يحدد ما هي هذه الهوية، وهل يقصد الفرعونية أو العلمانية أم التطبيعية مع العدو الصهيوني، لأنه اعتبر الهوية الإسلامية" عدو يسعي لاختطاف مصر!
وفي لقاء له مع رؤساء تحرير الصحف المصرية، بتاريخ 24 أغسطس 2014، قال السيسي إن المصريين لم يثوروا على مرسي بسبب انقطاع الكهرباء والفشل في تحسين حياتهم، بل بسبب سياسته التي كانت تقوم على "تغيير هوية الدولة المصرية وأخذها في اتجاه مضاد للأهداف التي احتشد المصريون من أجلها"- وفق زعمه-، في إشارة للهوية الإسلامية الوطنية.
أيضا قال السيسي لوكالة "أسوشيتد برس"، في 20 سبتمبر 2014، أنه قام بالانقلاب كي يمنع مرسي من الحفاظ على هوية مصر زاعما: "تحركت لأحمي المصريين من خطر الإسلام السياسي".
وأكد نفس التوجه، نبيل فهمي وزير الخارجية السابق، حيث قال لمجلة "دير شبيجل" في 5 أغسطس 2013: "مرسي أراد تأسيس نظام إسلامي وهو لم نكن لنسمح له بذلك فاتفقنا مع الجيش"!
واعترف "فهمي"، في لقاء مع قناة "روسيا اليوم"، في سبتمبر 2013، بأن المشكلة لم تكن في أداء مرسي من حيث كونه جيداً أم سيئاً، وأنه حتى لو كان فاشلاً فإنه كان يمكن الانتظار لـ 3 أعوام أخرى والإطاحة به عبر الانتخابات، لكن المشكلة أنه "أراد تغيير وجه مصر"، أي هويتها.
"اسرائيل" استثمرت مليارات في انقلاب مصر!
أيضا قال رئيس وزراء العدو الصهيوني، "بنيامين نتنياهو"، في تصريحات صحفية: إن إسرائيل ساهمت بمليارات الدولارات في انقلاب مصر ؛"لأن تحالف مرسي مع تركيا الإسلامية كان ينذر بزوال إسرائيل".
و قال الباحث شادي حميد، من معهد بروكينغز، في دراسة بمجلة "فورين بوليسي"، 2 يوليو 2023، حول كواليس انقلاب السيسي والموقف الأمريكي منه: إن الموقف الأمريكي المعادي للرئيس مرسي ومن خلفه جماعة الإخوان المسلمون راجع لمعاناة عملية الدمقرطة وفق المفهوم الأمريكي من "المعضلة الإسلامية".
أضاف أن المسؤولين الأمريكيين الذين كانوا يؤمنون بالديمقراطية وجدوا صعوبة في دعم الدول العربية، لأن الأحزاب الإسلامية كانت هي التي تفوز في انتخابات حرة وتفرض هوية إسلامية للبلاد بينما كان الغرب يتوقع فوز الليبراليين!!
وقد استقى "حميد" استنتاجاته من مقابلات مع 30 شخصية أمريكية، بمن فيهم مسؤولون كانوا مع أوباما في الغرفة أثناء القرارات الحاسمة عقب انقلاب السيسي.
انتقاد خروج "مرسي" إلى صلاة الفجر!
وصل الأمر إلى درجة انتقاد خروج الرئيس إلى صلاة الفجر مع رواد مسجده القريب من منزله، بزعم أن ذلك دروشة، ويأتي على حساب التفرغ لحل مشكلات البلاد المستعصية، ويكلف خزينة الدولة خروج سيارات الحراسة معه فجرا!
استشعروا الخطر من أن تعود مصر لهويتها الإسلامية فتصبح رمزا ومعادلة صعبة في المنطقة تهدد ليس فقط الدولة الصهيونية، التي زرعها الغرب في ارض فسطين، ولكن تهدد عروش الأنظمة العربية التي تورث الحكم لبعضها لتبقي الدول خزانة ينهبون منها وقتما يشاءون دون حسيب أو ضمير.
وبات اليوم واضحا مع تسارع الخطى للتطبيع من جانب الحلف العربي-الصهيوني ورغم العدوان علي غزة، أن الأمر ليس سوي مواجهة مع الإسلاميين، فحماس-مثلها مثل مرسي- تتبني نفس المشروع الإسلامي لجماعة الإخوان، ولذا يعتبرون خطرهم واحد على الصهاينة والغرب والمتصهينين العرب.
معركة الهوية بين "مرسي" وإعلام الانقلاب
كان دور الرئيس الشهيد، محمد مرسي، في الحفاظ على هوية الأمة ومنطلقاتها الإسلامية واضحا في تصريحات وخطبه المختلفة، في حين كانت منظومة الإعلام في واد ومرسي في واد أخر، فلم يحتف الإعلام بمبادرات الرئيس الرمزية أو بمواقفه الجريئة المرتكزة على العقيدة الإسلامية والهوية التاريخية، بل تحرك بصفة عكسية ضده متبعا وسائل مختلفة للحط من مكانته واعتبار مواقفه قائمة على استغلال الدين!
ثم ركز الخطاب الإعلامي لانقلاب العسكر في مصر، منذ 3 يوليو 2013، على نقطة محورية اعتبرها من مبررات الانقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة بقيادة الرئيس محمد مرسي (2012-2013)، وهي الادعاء بأن وجود مرسي وحكومته سوف يسلخ مصر من هويتها (دون تعريف وتحديد ما هية هذه الهوية)، ويحولها إلى "إمارة إسلامية"، وأن معركة الهوية من مبررات تحرك الجيش للانقلاب، مع تمرير رسالة دائمة بأن الشعب المصري أيد هذا التحرك؛ حفاظا على هويته!!
هذا الحديث المتكرر عن "الهوية الإسلامية" كان كافيا لإرعاب الغرب والدولة الصهيونية، خاصة أن الرئيس محمد مرسي وتياره الاسلامي كانا مستندين على برنامج واضح تميزه هوية إسلامية أصيلة، بحكم انتماء الرئيس لجماعة الإخوان المسلمين، لذلك كان الضوء الأخضر لجنرالات الجيش المصري للانقلاب على هذه الهوية لا الرئيس، وهذا ما عبر عنه السيسي، كما عبر عنه القادة الصهاينة بوضوح.
في ذلك الوقت، زعم عدد من الإعلاميين، مثل: إبراهيم عيسى ولميس الحديدي بأن الصلاة الواحدة لمرسي تكلف ما لا يقل عن 3 ملايين جنيه، وخصص المذيع باسم يوسف فقرة كاملة في برنامجه حول "موكب مرسي" لانتقاده وتبني ذلك الرقم الذي زعمه الإعلاميون رغم أن هذه أكاذيب.
امتد التشكيك في حرص مرسي علي الهوية الدينية إلى التشكيك في أهلية وصلاحية الرئيس، لأنه يتصرف ويخطف "كداعية في مسجد لا كرئيس"، حسب زعمهم!.
وصل الأمر، إعلاميا، حد الاستغراق في الإسفاف ونسج المزاعم الرخيصة، مثل نشر ادعاءات في صيغة "تسريبات" مزعومة عن "تصرفات غريبة" تصدر عن رئيس الجمهورية، والإتيان بأقاويل ملفقة لأطباء نفسيين مزعومين عن سلوك "هذا الرجل" الذي يسكن قصر الرئاسة.
وجدت هذه الحكايات الساذجة فرصة واسعة في عناوين هبطت بمستوى بعض الصحف المصرية إلى دركات الاستغفال والحضيض الدعائي.
الصحفي حسام شاكر، المقيم في أوروبا، قال إنه لاحظ على مدار سنة كاملة للرئيس محمد مرسي في القصر أنه تم استهدافه بتقارير ومزاعم دؤوبة، مع تعقبه في تعبيراته وحركاته وإشاراته وسكناته.
فما إن تودد إلى شعبه بالقول "أهلي وعشيرتي" التي كانت لازمة لخطاباته الأولى، حتى انطلقت حملة ضارية لإساءة تأويل هذا التعبير واعتباره عودة إلى منطق القبيلة والعشيرة وانه يقصد "عشيرته من الإخوان"!
وعندما منحته جامعة باكستانية الدكتوراه الفخرية واعتمر قبعتها، حسب المراسم الأكاديمية، تعقبته صور ورسوم ساخرة مشفوعة بتعليقات لاذعة لإظهاره في هيئة غرائبية، برغم سبق ظهور رؤساء ومسئولي مصر السابقين في مناسبات بصورة مشابهة.
ومن بين هذه الجوقة، ظهر باسم يوسف كأحد مقدمي البرامج الساخرة في سنة الديمقراطية الفريدة تلك، ليكرس برنامجه للتهكم على "مشروع النهضة" الإسلامي للرئيس الدكتور محمد مرسي، أي البرنامج الانتخابي الذي صعد به مرسي إلى الرئاسة، والذي لاقى كثيراً من التسفيه على هذا النحو دون أي قراءة نقدية منصفة في الشاشات.
وحين أبعد السيسي الصحفي الراحل "ياسر رزق" في التغييرات الاخيرة عن رئاسة ادارة اخبار اليوم، رغم خدماته للانقلاب، كتب الليبرالي الدكتور عمرو الشوبكي، يمتدح صديقه رزق ورد عليه الأكاديمي المصري الدكتور "علي فراج" المغترب المقيم في امريكا، يعدد محاسن ومناقب الرئيس مرسي.
قال: "ولئن دُعيت للشهادة أمام الله عن أهم ما ماز عهد الرئيس مرسي، والأثر الباقي لعهده، فإنني أشهد الله أن المادة السابعة التي استحدثت في دستور 2012، الخاصة بالأزهر، والتي أبقي عليها بنصها في دستور 2014، تعتبر لدي أهم أثر بقي من عهد الرئيس مرسي، فالرجل – محمد مرسي – لم يذهب سُدي، بل له أثر باق في الدستور، ما بقيت المادة السابعة!".
وتنص المادة السابعة التي يتحصن بها شيخ الازهر ضد السيسي حاليا على أن: "الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم، وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء".
لماذا بقيت هوية مصر محل جدل؟
يشير تقرير لقناة سي إن إن الأمريكية 13 يناير 2024 إلى أن قضية الهوية في مصر ظلت قضية جدالية بشكل دائم، قبل استقلال مصر وبعده، حيث ظلت قضية الهوية مثار جدل منذ عقود، وتنخرط في هذا الجدل القوى الدينية والعلمانية، وكذلك القوات المسلحة وأبناء الأقليات.
ففي مطلع القرن العشرين، ومع الانفصال عن الدولة العثمانية، كان التركيز من قبل السلطات على الخصوصية المصرية بموازاة نظرية الأمة الأوسع، قبل أن يكون للعائلة المالكة المصرية لفترة من الزمن مشروعها الخاص لإقامة خلافة ترث الدولة العثمانية.
وفي منتصف العقد الرابع من القرن الماضي، قادت مصر مشروع توحيد الدول العربية في إطار جامعة الدول العربية، مستفيدة من مكانتها وقدراتها لتتزعم الهيئة الدولية الجديدة، وتوالى المصريون على رئاسة الجامعة منذ تأسيسها، باستثناء الفترة ما بين 1979 و1990 عندما تولاها التونسي الشاذلي القليبي، بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وتعليق عضوية القاهرة في الجامعة.
وتسبب تعليق عضوية مصر آنذاك برد قاس من السادات الذي اعتبر أن المصريين هم "أصل العرب"، ودعاهم إلى أن ينتموا هم إلى مصر لا أن تنتمي مصر لهم، ورفض في الخطاب نفسه طروحات البعض حول انتماء مصر "الفرعوني" البعيد عن العرب.
وقد عادت العلاقات بين مصر والعرب إلى مجاريها بعد ذلك، لكن سياسات السادات لعبت دورا حاسما في تبدل آخر على صعيد الهوية السياسية لمصر، إذ باتت واحدة من أبرز حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، بعد سنوات طويلة أمضتها على علاقة تحالف وطيدة مع الاتحاد السوفيتي، وبفضل اتفاقية السلام حصلت مصر على مساعدات مالية وعسكرية واقتصادية من الولايات المتحدة، كما طردت الخبراء السوفييت من أراضيها.
وقد برز صراع داخل البلاد بين القوى الإسلامية والعسكريين، إذ سعت المؤسسة العسكرية إلى الحفاظ على هوية "وطنية" في مصر، مستخدمة الايديولوجيا الاشتراكية في فترات حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، والانفتاح الليبرالي في فترة حكم السادات، وذلك بمواجهة الدعاة إلى هوية "إسلامية" تعتمد على الأيديولوجيا الدينية.
وكانت جماعة "الإخوان المسلمين"، ومعها "الجماعة الإسلامية" على رأس القوى المنادية بالهوية "الإسلامية" بمواجهة "علمانية" اشتراكية أو ليبرالية، لتكتسب "الهوية الإسلامية" بذلك بعدا سياسيا يرتبط بـ "تحكيم الشرع" في أمور الدولة.
وبرز الحديث مجددا عن هوية الدولة بعد تنحي الرئيس حسني مبارك وصعود التيار الإسلامي وتولي الرئيس محمد مرسي الحكم، فنددت القوى الليبرالية والعلمانية بمواد في الدستور وصفت بـ "مواد الهوية" وبتحديد الشريعة مصدرا للتشريع، وانضمت إليهم الكنيسة القبطية التي زعمت أن الدولة دخلت في مرحلة "أسلمة" تمثل تهديدا لها.
ومثلت قضية "الهوية" واحدة من أهم نقاط الخلاف طوال السنة التي تولي فيها الرئيس محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين السلطة، وزاد من عمق الأزمة والانقسام حولها حالة التخبط التي عاشتها السياسة الداخلية والخارجية لمصر والتجاذب الحاد حول المواقف التي يجب على القاهرة أن تتخذها من دول الجوار ومن القضايا الإقليمية بحكم وزنها الدولي، بالترافق مع فتور في العلاقات بينها وبين معظم الدول الخليجية المتوجسة من حكم "الإخوان."
وعقب الانقلاب العسكري، وسلب السلطة بالدبابة من الرئيس محمد مرسي عادت قضية الهوية من جديد لتطرح في مصر من خلال النقاش على الدستور وتعديلاته، فبرزت مرة أخرى الخلافات حول "مدنية" الدولة و"دينها الرسمي" وكذلك حول اعتبار الشريعة مصدرا للتشريع، وهوية الجهة التي تتولى تفسير المقصود بالشريعة، ووقف الأزهر إلى جانب الكنيسة في القضية بمواجهة التيار السلفي المتمثل في حزب النور، والذي خسر المواجهة في نهاية المطاف.
لذا عاد النقاش الداخلي إلى المربع الأول، الذي كان عنده منذ أكثر من ستة عقود، بين جيش يرى نفسه المسئول وحدة عن "الدولة وقيمها" ويستغل جنرالاته ذلك في احتكار السلطة والثروة، وتيار "إسلامي" يحمّل "الدولة العميقة" وقوي علمانية ويسارية مسؤولية إفشال أول تجربة ديمقراطية في تاريخ مصر من الحكم العسكري عام 1952.