وائل قنديل يكتب: ثورة ثقافية في المونديال

الأربعاء - 23 نوفمبر 2022

- وائل قنديل
( كاتب صحفي )

من العبث محاولة الفصل بين ما هو سياسي وثقافي وما هو رياضي في أكبر تظاهرة عالمية لكرة القدم في مونديال الدوحة، فمثل هذه المحاولة محكومٌ عليها بالفشل مهما حاولت، ذلك أنه حتى قبيل انطلاق صافرة بداية المباراة الافتتاحية بين قطر والإكوادور لم يكن أحدٌ من داعمي قطر أو منتقديها قادرًا على الفصل بين الثقافي والكروي، أو بين السياسي والرياضي.
الرجل الأول على رأس النظام العالمي لكرة القدم رئيس "فيفا"، جياني إنفانتينو، شخصيًا، لم يستطع الإفلات من هذه المعضلة، فتحدّث قبل يومين من افتتاح البطولة بوصفه زعيمًا لثورة ثقافية عالمية تنطلق من أرض قطر، مستدعيًا كل التناقضات الفكرية والحضارية بين عالمين لا يريد أحدهما أن يعترف بأن عصرًا جديدًا لم يعد يتّسع لهذه الخيلاء والغطرسة الاستعلائية التي يمارسها على الآخر.
"أنا أوروبي الهوية، لكنني عندما أنظر إلى ما فعلناه نحن الأوروبيون خلال 3000 عام سبقت أرى أنه علينا الاعتذار لمدة 3000 عام قادمة قبل أن نبدأ بتقديم دروس أخلاقية لبقية دول العالم". هكذا تحدث إنفانتينو متمرّدًا على لوثة التفوق العرقي التي لا تزال تنتاب قطاعاتٍ لا يُستهان بها في الغرب، ومحطمًا الكثير من الأصنام والأوهام المعششة في العقل الأوروبي السجين في إرثه الاستعلائي.
أشعلت صيحة إنفانتينو منصّات الكلام عن الهوية والثقافة والتراث، وأطلقت أشباح صراع الحضارات في مناسبةٍ هي بالأساس محاولة لتجسير الهوة بين الهويات الثقافية والاجتماعية المتنوّعة والمتابينة في تجلياتٍ عديدة، لكنها بالتأكيد متّحدة فيما يخص كرة القدم بوصفها اللعبة ذات اللغة العالمية والثقافة الواحدة، والتي هي أساس الحدث التاريخي الذي تستضيفه قطر، بعد أن تفوّقت على جميع المنافسين بتقديم ملف مونديالي مذهل، تحدّت به الجميع لحظة الإعلان عن فوزها في تلك الليلة من العام 2010 حين أشهر رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم الورقة التي تحمل اسم الدولة صاحبة الامتياز، حيث قال رئيس لجنة الملف القطري وقتها: شكرًا لكم على أنكم آمنتم بالتغيير، ونعدكم أنكم سوف تكونون فخورين بنا.
وها هي 12 عامًا مرّت، وجاءت لحظة تحقّق الوعد القطري بافتتاح مبهر لبطولةٍ مذهلة، توفرت فيه كل معاني الاعتزاز بالهوية الثقافية والدينية والاجتماعية، بجملة واحدة الهوية الحضارية لدولة عربية تفخر بالجمل رمز صحرائها القديمة وتستدعي بدايات تكوّنها ونموّها وتطوّرها من خلال عرض صور تجسّد مراحل تعارفها على رياضة كرة القدم منذ عقود، لتنتقل إلى صورتها اليوم التي رجّت الأوهام الاستعلائية القديمة رجّا عنيفًا ووضعت المتغرطسين أمام حقائق الواقع، واقع التغيير الذي آمن به الذين يديرون المنظمة الأممية الأكبر لكرة القدم "فيفا".
بانطلاق مباريات البطولة من المفترض أن تنتهي معارك الهوية والثقافة، وتسكت مدافع الكلام لتتحدّث أقدام الإبداع، ولنستمتع بكرة القدم في بيئة مثالية للعبة، وفي بطولة عنوانها الأساس هو كرة القدم. 
لقد نجحت قطر في اللحظة التي انتهى فيها حفل الافتتاح، وانطلقت صافرة البداية، والحال كذلك حريٌّ بالجميع إعادة ترسيم الحدود بين ما هو رياضي وما هو دعوي ودعائي، بعد أن قالت كل الأطراف ما لديها وبقيت حقيقة ساطعة تقول: لقد نجحت قطر في تقديم وجهٍ مشرقٍ لهويتنا وحضارتنا، ولم تعد بحاجة للكلام، بعد أن أذهلت العالم بالأفعال.

المصدر العربي الجديد