محمود عبد الهادي يكتب: طالبان على أبواب الإمارة الثانية | (5)هل انهزمت أميركا في أفغانستان؟

الثلاثاء - 5 أكتوبر 2021

- محمود عبد الهادي
( كاتب صحفي وباحث )

الحديث عن هزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان، لا يشبه حديثنا في المقال السابق عن انتصار طالبان على الولايات المتحدة؛ فنحن أمام طرفين مختلفين في كافة الجوانب، وأي محاولة لعقد مقارنات بينهما ستقودنا إلى نتائج خاطئة ستؤدي إلى فشل الخطط أو التصورات التي قد تنبني عليها، تماما كما لو عقدنا مقارنة بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والكيان الصهيوني. ربما يفضل البعض الحديث عن هزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان، لأهداف سياسية أو تحت ضغط الانفعال والسخط الشديد على السياسات الأميركية ضد العرب والمسلمين، ولكن هذا الحديث لن يغير من حقيقة أن الولايات المتحدة لا تزال الدولة العظمى الوحيدة المهيمنة في العالم، وطبعًا هذه الحقيقة لن تستمر إلى الأبد.

 

خسارات الولايات المتحدة في أفغانستان وغيرها -رغم تكلفتها الباهظة- تُحسب ضمن مغامرات العربدة التي تقوم بها القوى العظمى، عندما تحرك جيوشها ومعداتها لتحقيق أهداف النخبة السياسية التي تتولى السلطة، والتي تتغير تكتيكاتها وفقًا للمعطيات الداخلية والخارجية، وتقديرات المواقف الإستراتيجية المتتابعة لهذه المغامرات.

خسارة وليست هزيمة

أفغانستان ليست شريان الحياة للولايات المتحدة، فهي مجرد دولة من دول العالم الثالث الأشد فقرا وتخلفا في العالم، ولكنها احتلت مكانة في إستراتيجيات الهيمنة الأميركية في العالم خلال فترة الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفياتي في النصف الثاني من القرن الماضي، حيث كانت أفغانستان هي الفرصة الكبرى للولايات المتحدة للقضاء على منافسها التقليدي والانفراد بزعامة العالم، فبذلت جهدًا كبيرًا لاصطياد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، بمساعدة حلفائها الإقليميين: باكستان وبعض الدول العربية، وتم لها ذلك.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، انشغلت الولايات المتحدة بصناعة العدو الجديد الذي سيخلف الاتحاد السوفياتي، ألا وهو الإرهاب الإسلامي. وبعد بضع سنوات كان هذا العدو (المصنوع) جاهزًا، وتحولت معركة المعسكر الرأسمالي الغربي -بقيادة الولايات المتحدة- من حربها ضد المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي صاحب أكبر ترسانة نووية في العالم، إلى الإرهاب الإسلامي بقيادة "القاعدة" و"داعش"! نعم، بقيادة "القاعدة" و"داعش"! أمر مثير للسخرية فعلًا، ولكنه حقيقي؛ حيث ابتلع العالم هذا الطعم، واصطفت دوله بانتظام خلف الولايات المتحدة لتقوده في هذه المعركة المختلقة الساذجة، التي ساعدت الولايات المتحدة على كسب المزيد من القواعد العسكرية الإستراتيجية، وتأسيس العالم أحادي القطبية، وممارسة عملية فرض الهيمنة الإمبراطورية التدريجية عليه.

 

كانت أفغانستان واحدة من الدول المدرجة في إستراتيجية الولايات المتحدة الجيوسياسية الجديدة، التي هندسها المحافظون الجدد تحت عنوان "القرن الأميركي الجديد"، وبدأ العمل على تنفيذها بشراسة في عهد الرئيس جورج بوش الابن. وكان هذا إيذانًا بتغير إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه العالم أجمع.

بعد واقعة 11 سبتمبر/أيلول 2001، حددت الإدارة الأميركية هدفًا رئيسيًا لغزو أفغانستان، وهو:

  • القضاء على أسامة بن لادن والقاعدة التي تحتضنهم طالبان في أفغانستان.

وظل هذا الهدف هو الراية المرفوعة، والحجة التي تبرر بها الإدارات الأميركية المتعاقبة لشعبها ولحلفائها غزوها لأفغانستان، وعملياتها العسكرية التي تجاوز عدد أفرادها 110 آلاف شخص عام 2010. ولكن هذا الهدف لم يكن الوحيد الذي يشغل بال الإدارات الأميركية، فقد كان بموازاته عدة أهداف أخرى أبرزها:

  • إسقاط نظام صدام حسين في العراق.
  • إقامة قواعد عسكرية لها في أفغانستان.
  • الاستحواذ على امتيازات التنقيب عن الثروات المعدنية في أفغانستان.
  • إطلاق مشروعات الطاقة العابرة إلى أوروبا عن طريق الهند وباكستان وأفغانستان.
  • قطع الطريق على الصين وروسيا من التدخل في الشأن الأفغاني.
  • وقد بررت إدارتا الرئيس السابق دونالد ترامب، والحالي جو بايدن، قرار الانسحاب من أفغانستان بأن الهدف من الغزو قد تحقق باغتيال بن لادن، وشل نشاط القاعدة وتعهد طالبان بعدم السماح للقاعدة أو لغيرها من الجماعات الإرهابية باستخدام أفغانستان لتنفيذ أنشطتها بأي صورة من الصور. وكان الرئيس بايدن أكثر إصرارًا من سابقيه على سرعة استكمال الانسحاب من أفغانستان، مخالفًا في ذلك رأي البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" (CIA).

أما هدف إسقاط نظام صدام حسين فقد تحقق عام 2003، في عملية إجرامية تاريخية بشعة، تحت ذريعة ملفقة تزعم أن صدام حسين أسهم في تمويل القاعدة، ويمتلك أسلحة دمار شامل تهدد الولايات المتحدة وحلفاءها. وأما بقية الأهداف، فما زال الباب أمامها مفتوحًا، وما زالت أميركا تمسك بمعظم خيوطها في يدها، وطالبان تمر بمرحلة انتقالية تدرك أنها لن تستطيع اجتيازها بأمان بدون الولايات المتحدة الأميركية شريكتها في التوقيع على اتفاقية إحلال السلام في أفغانستان.

بين مغامرات فيتنام وأفغانستان

قد تبدو أرقام خسائر الولايات المتحدة في أفغانستان باهظة بالمجمل في نظر دول الهامش التي تعيش على الديون والقروض والمنح، ولكن إذا أعدنا قراءة الأرقام من منظور الإمبراطورية التي تتزعم العالم، نجدها لا تذكر مقارنة ببنود الموازنة الفدرالية للولايات المتحدة أو موازنة وزارة الدفاع "البنتاغون"، أو مقارنة بأرقام الخسائر التي تكبدتها الولايات المتحدة في 20 عامًا في حرب فيتنام بين عامي 1955-1975.

 

أنفقت الولايات المتحدة على الحرب في أفغانستان حوالي 2 ترليون دولار في 20 عامًا 2001-2021، وهو مبلغ يغطي موازنة أفغانستان العام الماضي (5.5 مليار دولار) لأكثر من 360 عامًا، في حين تعادل الحصة السنوية من هذا المبلغ متوسط 10% من الموازنة السنوية للبنتاغون في العشرين عامًا الماضية. أما القتلى من جنود القوات الأميركية فكانوا حوالي 2650 جنديا طوال المدة، أي بمعدل 132 جنديا سنويًا، مما يعادل حوالي جندي كل 3 أيام.

وإذا قارنا هذه الخسائر بنظيرتها في الحرب الأميركية في فيتنام، نجد أن عدد القوات الأميركية المشاركة في الحرب بلغت عام 1967 حوالي نصف مليون جندي أي أكثر من 4 أضعاف العدد الذي وصلت إليه في أفغانستان، وبلغت تكلفة الحرب نحو 750 مليار دولار، وتعادل قيمتها حاليًا أكثر من تكلفة الحرب في أفغانستان، في حين بلغت خسائر القوات الأميركية في فيتنام حوالي 60 ألف قتيل، أي بمعدل نحو 3 آلاف قتيل سنويًا. أي أن ما قتل من الجيش الأميركي في أفغانستان في 20 عامًا أقل من قتلاهم في فيتنام في عام واحد.

خسارة وليست هزيمة

خسرت الولايات المتحدة الحرب في فيتنام، وانسحبت منها بدون أن تحقق هدفها بهزيمة الشمال الشيوعي الموالي للاتحاد السوفياتي آنذاك. وفي العام التالي لانسحابها تم توحيد فيتنام تحت اسم (جمهورية فيتنام الاشتراكية) بقيادة الحزب الشيوعي الفيتنامي. كما خسرت الحرب في أفغانستان بدون أن تقضي نهائيًا على القاعدة والمجموعات الموالية لتنظيم داعش، وانتهى الأمر بعودة طالبان ورفع علم دولة إمارة طالبان الإسلامية في سائر ربوع أفغانستان.

هذه الخسارات -رغم تكلفتها الباهظة- تُحسب ضمن مغامرات العربدة التي تقوم بها القوى العظمى، عندما تحرك جيوشها ومعداتها لتحقيق أهداف النخبة السياسية التي تتولى السلطة، والتي تتغير تكتيكاتها وفقًا للمعطيات الداخلية والخارجية، وتقديرات المواقف الإستراتيجية المتتابعة لهذه المغامرات، ومن بين هذه التكتيكات ما يراه الرئيس بايدن حاليًا من أن الوجود العسكري في أفغانستان لم يستطع إثبات أن الدبلوماسية لن تنجح بدونه، بل إنها قادرة على النجاح بالاستعانة بالحلفاء الإقليميين من دون الوجود العسكري، ولهذا شدد على إتمام الانسحاب، بدون أن يكف عن التلويح بالقوة والقدرة على التدخل في أي مكان وفي أي وقت دفاعًا عن المصالح الأميركية.

 

انسحبت الولايات المتحدة من فيتنام، بعد أن تسببت في مقتل أكثر من مليوني إنسان، وهي على تواصل حاليًا مع القيادة الفيتنامية لإعادة بناء العلاقات وتنسيق المواقف في مواجهة الصين التي يزداد تهديدها لفيتنام. أما في أفغانستان، فلم يكن الأمر بالحدة نفسها كما كان في فيتنام. وقد سلّمت الولايات المتحدة أفغانستان لطالبان على أسس تعاون مشتركة في العديد من المجالات، وعلى الأغلب، فإن أبواب المصالح المتبادلة ستبقى مفتوحة بينهما، وستعدد مشروعات التعاون لاستكمال ما اتفقا عليه، مما يحقق مصالح كل منهما لدى الآخر.

(يتبع… ثمن الحرب وتحديات إعادة البناء)

 

نقلا عن الجزيرة